لبنى عبد العزيز لـ المدن: شِجار أبي وخالي جعلني ممثلة

لبنى عبد العزيز
لبنى عبد العزيز


في 7 تشرين الأول/أكتوبر 1957، قدم المنتج رمسيس نجيب أحد أهم اكتشافاته الفنية، الممثلة لبنى عبد العزيز، حينما شاركت عبد الحليم حافظ بطولة فيلم "الوسادة الخالية" عن قصة لإحسان عبد القدوس ومن إخراج صلاح أبو سيف. خمسة وستون عاماً مرت الآن على ظهورها الأول، وما زال المشاهد العربي يتذكر شاعرية سميحة بطلة "الوسادة الخالية" وهي تواجه بكل حزم لم يألفهما جمهور تلك الفترة من بطلة رومانسية، شطط "صلاح" العاشق المحروم الذي كان أن يفسد حياتها. خمسة وستون عاما وما زالت لبنى تحتفظ لدى عشاقها بصورتها الأولى، رغم ما أصاب تلك الصورة من خدوش بفعل ظهورها المفاجئ العام 2007 بعدما غاب عنها بريق الشباب.


كانت لبنى عند ظهورها، مختلفة في كل شيء عن ممثلات جيلها. فتاة فتحت عينيها على عيون الأدب في مكتبة والدها، الكاتب المسرحي حامد عبد العزيز، ثم تلقت سنوات تعليمها في أرقى مدارس القاهرة قبل تخرجها في قسم الفلسفة والاجتماع في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ثم نالت درجة الماجستير في الدراما المسرحية من جامعة لوس أنجليس في الولايات المتحدة، وفي أثناء دراستها تعرفت على روائع الأدب العالمي: شكسبير، غوته، إبسن، شو، سترندبرغ، برانديللو، همنغواي، تينسى ويليامز، آرثر ميلر.


تقول لبنى عبد العزيز لـ"المدن": "أنا سعيدة لأنكم انتبهتم لهذه المناسبة العزيزة على قلبي، تخيل. انقضت خمس وستون سنة كلمح البصر، ما زلتُ أذكر تلك البدايات، وحتى ما مررت به قبل دخولي عالم الفن، كان كل شيء في طفولتي يؤكد أنني ذاهبة إلى هذه الطريق التي مشيت فيها والفضل للمناخ الذى هيأه لي والدي، وهو أكثر من شجعني، حتى أني، كطفلة، لم أكن أتصور نفسي إلا ممثلة، رغم أن نظرة المجتمع لم تكن ترحب بذلك. خذ لذلك مثلاً: كان لي خال مقيم معنا في منزلنا، سألني ذات مرة تحبي تطلعي ايه لما تكبري؟ فأجبت على الفور وأنا طفلة السادسة: نفسي أطلع ممثلة، فإذا بهذا الخال الذي كان مصدراً دائماً للحنان، يهوي على وجهي بقَلَم (صفعة) سمع صوته أبي من الغرفة الأخرى، فجاء وتشاجر مع خالي الذي ترك المنزل بعدها ولم يدخل بيتنا مرة أخرى، ولا تتخيل ماذا فعل بي هذا القلم، خلق بداخلي نوعاً من التحدي والإصرار على أن أصبح ممثلة، وبالفعل مارست التمثيل في المدرسة، وفي الإذاعة المصرية وفي أثناء دراستي في الجامعة".


قلت لها: أعرف أن احترافك التمثيل تأخر ثلاث سنوات.. فأكدت لبنى هذه المعلومة، وأرجعت ذلك إلى اشتراط أبيها الانتهاء من دراستها العليا، قبل الوقوف أمام كاميرا السينما، وأن المخرج صلاح أبو سيف، ألح عليها وعلى والدها أكثر من مرة كي يقدمها في فيلم من إخراجه، لكن هذه الخطوة أُرجئت إلى أن جاء فيلم "الوسادة الخالية"...

ولم يكن الاختلاف فكرياً وثقافياً فحسب لدى لبنى عبد العزيز، بل شكلياً وظاهرياً أيضاً. فهي ليست من ذوات البشرة البيضاء والشعر الأصفر، إنما وجه مصري أسمر رقيق القسمات تكسر سمرته –على غير المألوف– عينان خضراوان لا تخطئان التعبير عن الإحساس. حتى صوتها، لم يكن في هدوء صوت فاتن حمامة، أو حدّة شادية، أو تكلّف ماجدة الصباحي، أو بحّة هند رستم، بل أقرب ما يكون إليهن مُجتمِعات وأبعد منهن في الآن ذاته.

وقد كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التفرد في نوعية الأدوار التي قدمت بها لبنى عبد العزيز نفسها إلى جمهور السينما، وهو ما بدا واضحاً في أفلامها الثلاثة الأولى: "الوسادة الخالية"، "هذا هو الحب"، و"أنا حرة". في الأفلام الثلاثة، وهي من إخراج صلاح أبو سيف، نقلت لبنى إلى الشاشة ثلاثة نماذج لفتيات تميزن بقوة الشخصية وعلو نبرة الإرادة الداخلية، وإن اختلفت درجة هذه القوة وحدتها بين القدرة على السيطرة على المشاعر وكبح جماح العاطفة كما في "الوسادة الخالية"، ورفض سيطرة الرجل وفق مفاهيم اجتماعية خاطئة كما في "هذا هو الحب"، ورفض كل ما يحد من حريتها في المدى الأوسع لمفهوم الحرية، والتمرّد على كل ما يقف حائلاً دون حريتها كما في "أنا حرة"، وهو الدور الذي يمثل ذروة التوافق بين قناعات لبنى عبد العزيز الحقيقية وبين قدرتها على ممارسة حقها في اختيار أدوارها للشاشة.

وكانت هذه الأدوار الثلاثة كفيلة بتحديد ملامح شخصية لبنى عبد العزيز، الفنية، والتي بدت غالبية أدوارها الأخرى بعد ذلك تنويعاً عليها، وإن اختلفت طبيعة الأحداث وبيئتها.. المهم أن تكون قوية ومالكة زمام المبادرة. فهي في فيلم "هدى"1959، فتاة أرستقراطية لاهية تصاب بالسرطان، فتسعى إلى التغلب على مرضها. وفي فيلم "بهية" قدمت دور فتاة ريفية تطلب ثأر أبيها، بينما هي في "غرام الأسياد" فتاة فقيرة تستطيع بقوة إرادتها أن تصبح سيدة مجتمع تجبر أسيادها القدامى على احترامها بل والوقوع في حبها. والأفلام الثلاثة من إخراج رمسيس نجيب هذه المرة. وإذا كانت "جهاد" في فيلم "واإسلاماه" من إخراج أندرو مارتون، قد شاركت حبيبها "قطز" في معركته ضد المغول، فإن "سلمى" كانت هي الأخرى مع "أدهم الشرقاوي" في مقاومته للاستعمار البريطاني، وذلك في الفيلم الذي حمل الاسم نفسه من إخراج حسام الدين مصطفى. وحتى وهي متسولة في "إضراب الشحاتين" أو خادمة في "هي والرجال" (الفيلمان من إخراج حسن الإمام) لم تتنازل عن امتلاكها زمام المبادرة والقدرة على العطاء للشاب الذي أحبته وآمنت بقضيته. وبين هذه الأفلام السابقة، قدمت سنة 1963، تمرداً من نوع آخر مع المخرج فطين عبد الوهاب، عندما أدت شخصية الفتاة سليطة اللسان حادة الطباع في فيلم "آه من حواء". ولأن السقوط يتعارض مع قوة الإرادة والقدرة على التحمل، كان لا بد للمخرج جلال الشرقاوي أن يغيّر نهاية أحداث رواية "العيب" ليوسف إدريس قبل تحويلها إلى فيلم سينمائي العام 1967 كي يناسب اختيارات لبنى عبد العزيز، إذ تتمكن بطلة الفيلم بكل ما لديها من روح المقاومة والتمرّد، من الصمود أمام كل قوى القهر، وهي نهاية تخالف ما صاغه يوسف إدريس في نصه والتي لم تكن تستقيم مع طبيعة واختيارات لبنى.


أسألها: حتى تلك المرحلة من عمرك الفني، ما الذي بحثتِ عنه في مشوارك: حرية الاختيار أم اختيار الحرية؟

تجيب لبنى: "عن المعنيَين أبحث.. كلاهما كان هدفاً، وكل منهما كان وسيلة للهدف الآخر، أنا بطبعي لست من النوع التقليدي أو الروتيني، أو على الأقل كنت كذلك، لهذا لم تكن اختياراتي تقليدية أيضا، كان لا بد لها أن تتوافق مع طبائعي، دائماً كنت أريد دوراً أنشب فيه أظافري وأعضه بأسناني، لا أريد تمثيل دور الفتاة الجميلة وأفضل عليه دور الأنثى الكاملة، دور تمتزج فيه عناصر القوة والضعف، الظل والنور، الحب والكراهية، الخير والشر، أردت دائماً دوراً أقرب إلى الحياة منه إلى خيال مؤلفه".

على أية حال، كان فيلم "العيب" آخر إطلالة للبنى عبد العزيز، قبل هِجرتها مع زوجها الثاني إسماعيل برادة إلى الولايات المتحدة، والبقاء هناك نحو أربعين عاماً، ثم عاوَدها الحنين إلى مصر وإلى التمثيل لتقدم بين العامين 2007 و2012 أربعة أعمال فنية، أولها بطولة الفيلم الوثائقي "الكواكب درة الصحافة الفنية"، ثم مسلسل "عمارة يعقوبيان" ومسرحية "سكر هانم"، وأخيراً فيلم "جدو حبيبي"، ومنذ ذلك الحين لم تشارك لبنى في أي عمل فني جديد.


فأسألها في النهاية السؤال الحتمي: إذن لماذا اختفيتِ أربعين عاماً؟ ولماذا عدتِ بعد كل هذا الغياب؟

تردّ بعد برهة: "اختفيتُ لأنني تزوجت، وكان عمل زوجي يحتم عليّ السفر معه إلى الولايات المتحدة، وهذا كان رأيي المعلن حتى حينما كنت زوجة لرمسيس نجيب، وهو أنه إذا تعارض عملى مع مسؤوليات بيتي، فالأفضلية للبيت، إلى حين القدرة على العودة، وكنت أخطط فيما أتجه إلى أميركا للعودة إلى التمثيل بعد عام أو عامين، لكن هذا لم يحدث، وحينما عاودنى الحنين إلى مصر تجددت رغبتي فى العودة أيضاً إلى التمثيل، والفضل لك لأنك أعدتَني للوقوف أمام الكاميرا حينما أخترتني لبطولة فيلم "الكواكب درة الصحافة الفنية"، ولولا نجاح الفيلم وتقبّل الجمهور لي، ربما ما كنت لأكرر التجربة مرة أخرى. كل ما أستطيع قوله بعد خمسة وستين عاماً على بدء اشتغالي بالفن، أنني لم أعتزل، حتى لو طالت فترات الغياب".

لبنى عبد العزيز
لبنى عبد العزيز



الوسادة الخالية
الوسادة الخالية


لبنى عبد العزيز
لبنى عبد العزيز


تعليقات: