قاسم أبو طعْام، الملقّب بـ"الزقلوط"، عامل أحذية بسيط، انتقل مع والديه وزوجته من بنت جبيل إلى حيفا، في فلسطين. وكان التنقل بين جبل عامل وفلسطين مثل التنقل بين قرية وأخرى في البلد الواحد.
لم يكن بين فلسطين وجبل عامل حدود وسدود، بل كانت هناك قوات احتلال انكليزية في فلسطين وفرنسية في جبل عامل. وكان أهالي جبل عامل يشتغلون في فلسطين، فمنهم من يعود إلى قريته بعد انتهاء عمله، ومنهم من كان يسكن في فلسطين، فيستأجر بيتاً أو يشتريه.
مرّت ثلاثُ سنوات تقريباً على استقرار قاسم أبو طعام في حيّ الزيتون في حيفا، فأنجب ابنته سلوى وابنه عدنان، ثم قرر أن يرسل والديه وولديه وزوجته -الحامل بابنته أسماء، التي ولدت بعد استشهاده- إلى بنت جبيل، بعدما تفاقم الوضع في فلسطين، وبعدما عاث الصهاينة فساداً ودماراً وقتلاً وتهجيراً واستيلاءً على الأرض.. أرسل قاسم أصوله وفروعه إلى بنت جبيل ليتفرغ لقتال الصهاينة، لأنه لم يكن يفرّق بين فلسطين ولبنان. فالأرض عربية، واللغة عربية، والثقافة عربية، والعادات والتقاليد عربية، فالكفاح يجب أن يكون عربياً.. ومن أولى من قاسم وزملائه في الدفاع عن عروبة فلسطين وعن كلّ شبرٍ من أراضي العرب!؟
كان قاسم أبو طعام يشعر في كلّ لحظةٍ أن عزيمته كانت تشتدّ على قدر تفاقم الخطر الصهيونيّ، فاندفع غريزياً إلى نصرة الحقّ على الباطل، وأسهم مع رفاقه في قتال يوميّ، لتبقى حيفا عربيةً، وليبقى حيّ الزيتون حراً وبعيداً من سيطرة الصهاينة، وقد شهد له شارع الملوك في حيفا جولات وجولات من القتال، فأبلى بلاءً حسنًا، تشهد عليه حيفا وحيّ الزيتون وشارع الملوك .
طالت غيبة قاسم عن أهله في بنت جبيل، فذهبت أمّه إلى حيفا لتكحّل عينيها برؤية قاسم، لكنها لحظة وصولها إلى حيفا لم تستطع الدخول إلى حيّ الزيتون؛ لأنّ معركة عنيفة جداً كانت تدور رحاها في شارع الملوك وحيّ الزيتون. انتظرت حتى توقف أزيز الرصاص، وذهبت إلى بيت ابنها لتراه شهيداً، افتدى أمته بدمه، فعانقت جسده الطاهر، وعادت مع " قمرها" إلى مسقط رأسه في بنت جبيل.
كتبت جريدة "الديار" اللبنانية، في يوم الأحد، 14 كانون الأول سنة 1947 (30 محرّم، سنة 1367): "ذكرنا حادث الشهيد اللبناني الأول في فلسطين المرحوم قاسم محمد حسين أبو طعام، من بنت جبيل، الذي اشترك مع فريق من شباب العرب بالقتال ضدّ عصابة من اليهود المسلحين، وبعد أن أبلى بلاءً حسناً قتل برصاص صهيوني.
وقد وصل جثمانه نهار الثلاثاء إلى بلدة بنت جبيل، وشيع نهار الأربعاء إلى مقره الأخير، حيث ووري بين الزغردة والأناشيد الوطنية والهتافات، وسمعت أصوات الشباب تردد:
يا فتى يعرب البطل قد أتت ساعة العمل
فاقتحم السهل والجبل"..
وكانت جريدة " الحياة " اللبنانية، قد كتبت يوم الجمعة، 12 كانون الأول، سنة 1947، العدد 488، تقول:
"من أجلكم مات قاسم: في عدد "الحياة " أمس (الخميس 11 كانون الأول، سنة 1947) نبأ سقوط الشهيد اللبناني الأول في معركة فلسطين الجديدة المرحوم قاسم الزقلوط من بنت جبيل، أسطر معدودات، تنطوي كلماتها القليلة على عظمة النهضة العربية بأسرها، وعلى الروح الوثّابة التي تعصف بالشباب العربي ساعة المحنة".
هذا الشهيد البطل، الذي دفع حياته ثمنًا لقناعة أصيلة راسخة في نفسه، لم يكن ينتظر ممّن جاء بعده حمداً ولا شكوراً؛ لأن البطولة أصالة في العمل، وبتٌّ للتردد أو للاتكال على الآخرين.. ولكنه لم يكن يعرف أن تجهيله وأمثاله من أبطال الأمة سيكون منهجاً مقرّراً، فتناسته بلدته بنت جبيل، فلم تُقِم له تمثالاً أو نصباً في ساحتها، باعتباره شهيد لبنان الأول في فلسطين، ولم يُدَرّس في المناهج الرسمية، أو في مناهج الأحزاب الوطنية والقومية والدينية التثقيفية، وتجاهلته مقاومات الأحزاب والقوى السياسية المتعاقبة، لأنه يكشف عوراتها الفكروية. ونظنّ أن بلدية حيفا هي التي ستتذكره وتحيي ذكره عندما تتحرّر من الاحتلال الصهيوني!
قاسم أبو طعام
تعليقات: