كانت «العرين» أثارت، ولا تزال، إزعاجاً كبيراً لدولة الاحتلال (أ ف ب)
على رغم حالة الاحتفاء التي أحاطت بها قيادة العدو عملية اغتيال قائد «عرين الأسود»، وديع الحَوح، إلّا أن مشهد التشييع الحاشد والغاضب للشهيد ورفاقه، أنبأ بأن حالة الالتفاف الشعبي التي خلقتْها المجموعة حولها في الضفة الغربية، لن يكون من السهل تبديدها، بل إن ما جرى ليل الإثنين - الثلاثاء، ربّما يحفّز مزيداً من الشبّان على الانخراط في صفوف «الأسود»، التي استطاعت تقديم نموذج ظلّ أهالي الأرض المحتلّة متعطّشين له. وإذا كان هذا هو ما يعتقده الشارع الفلسطيني على الأقلّ، فإن المراقبين الإسرائيليين لا يُظهرون أملاً بـ«تحطّم» المجموعة قريباً، فيما يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن مشهد الاستعراض الذي رافق العملية، سيؤدّي، على العكس ممّا أريد منه، إلى «تعظيم العرين أكثر»
خيّم الحزن والغضب على عشرات آلاف الفلسطينيين خلال تشييعهم شهداء نابلس الخمسة، وعلى رأسهم قائد «عرين الأسود»، وديع الحَوح. لكن هتاف الجماهير، الممزوج بالرصاص، بالتأييد للعرين، والذي تردّدت أصداؤه في جبلَي جرزيم وعيبال، أنبأ بحجم الالتفاف الشعبي الذي باتت تحظى به المجموعة، والذي سيُترجَم ربّما مزيداً من الانخراط في صفوفها. وعلى رغم الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها «العرين» خلال الأشهر الماضية، بدءاً من استشهاد قادتها أدهم الشيشاني ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط وسط نابلس في عملية اغتيال في شباط الماضي، مروراً باستشهاد أبو صالح العزيزي وعبود صبح وإبراهيم النابلسي، وصولاً إلى تامر الكيلاني ووديع الحَوح، وما رافق ذلك من اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية مصعب اشتية، إلّا أن كلّ ما تَقدّم فشل في اقتلاع هذه الظاهرة التي أقلقت إسرائيل.
وعلى خلفيّة هذا الفشل، بدت حكومة العدو، في الأيام الأخيرة، مستعدّة لفعل أيّ شيء من أجل القضاء على «الأسود»، مع الأخذ في الاعتبار الحسابات الانتخابية لرئيسها يائير لابيد ووزير حربها بني غانتس، اللذَين يريدان استحصال إنجاز قبيل الانتخابات الإسرائيلية، يمكنهما تسويقه في مقابل مُنافِسهما بنيامين نتنياهو، المتقدّم عليهما بحسب استطلاعات الرأي. ومن هنا، أعطى الاثنان الضوء الأخضر للعودة إلى الاغتيالات كما حدث للكيلاني، وأيضاً لتنفيذ عمليات واسعة على غرار ما جرى فجر الثلاثاء، وربّما اجتياح كبير على غرار اجتياح عام 2002. وحتى موعد الانتخابات، تبدو إسرائيل أقرب إلى ارتكاب المزيد من المجازر والاقتحامات لمدينة نابلس، في محاولة للقضاء على ما تَبقّى من قادة «العرين»، فيما قد تتّجه كذلك إلى تنفيذ هجوم مشابه في مدينة جنين ضدّ عناصر «كتيبة جنين».
وعلى رغم النشوة التي أظهرها قادة العدو في أعقاب عملية نابلس، إلّا أن مشهد التشييع الحاشد للشهداء جاء ليُعاكسها، فيما شوّش عليها أيضاً تسريب معلومات حول فشل العملية في القضاء على عناصر المجموعة. إذ ذكرت مصادر عبرية أن اقتحام المنزل الكائن في حيّ القصبة كان هدفه التخلّص من 11 عنصراً، إلّا أن عشرة من هؤلاء نجوا من القتل، فيما استشهد الحَوح و4 آخرون في مناطق متفرّقة من القصبة وخارجها. وعلى الرغم من قِصَر تجربة «العرين»، ومحدودية إمكاناتها العسكرية والاستخباراتية والمالية، وتكثيف الملاحقة لها، إلّا أنها استطاعت، أوّلاً، توجيه ضربات قاسية ضدّ جيش الاحتلال والمستوطنين، وكسْب تأييد الشارع الفلسطيني، وخلْق حالة ربّما كان الأخير متعطّشاً لظهورها حتى يسير في ركْبها، بل وتحوّلت إلى فكرة متجذّرة ورمز مقدّس لدى الفلسطينيين. ومن هنا، ثمّة اعتقاد في الشارع، الذي أضحى خيار المقاومة المسلّحة أولوية بالنسبة إليه أكثر من أيّ وقت مضى خلال العقدَين المنصرمَين، بأن «الأسود»، وإنْ نجح الاحتلال في اغتيال قادتها ومحاصرتهم وملاحقتهم، لن تُمحى فكرتها التي زُرعت من قِبَل هؤلاء ونمت بدمائهم.
تجد إسرائيل نفسها اليوم، بعد 7 أشهر من عملية «كاسر الأمواج»، أمام حالة من المقاومة المتدحرجة
وكانت «العرين» أثارت، ولا تزال، إزعاجاً كبيراً لدولة الاحتلال، التي لم تستطع حتى الآن فهمها أو معرفة كيفية تشكّلها. إذ إن الجيش الإسرائيلي يشنّ يومياً حملات اعتقال ومداهمة وتوغّل في المناطق الفلسطينية كافة، ويلاحق ويعتقل كلّ فلسطيني يشكّ في إمكانية عمله ضدّ العدو، ويستخدم التكنولوجيا المتقدّمة في مراقبة الفلسطينيين، على غرار برنامج «بيغاسوس» الذي كشفت الصحافة العبرية أنه كان خيط الوصول إلى الحَوح. وعلى رغم كلّ ذلك، نجحت مجموعة من الشبّان في تأسيس «الأسود»، والانخراط في الفعل العسكري. وممّا يضاعف القلق الإسرائيلي إمكانية امتداد هذه التجربة إلى مناطق أخرى في الضفة، والتحاق عشرات الشبّان بهذا النموذج الوليد، الذي يعبّر عن تطوّر كبير في العمل المقاوم، الذي كان بدأ يتصاعد على نحو فردي عام 2015 ضمن ما عُرف بـ«هَبّة السكاكين والدهس»، وتطوّر لاحقاً متأثّراً بمعركة «سيف القدس» ونتائجها، وصولاً إلى تشكيل مجموعات مسلّحة تعمل في إطار تنظيم بسيط، استطاع توجيه صفعات قاسية إلى منظومة الأمن الإسرائيلي، بدءاً من عملية رعد خازم وضياء حمارشة في الداخل المحتل، وليس انتهاءً بعمليّتَي عدي التميمي.
وتجد إسرائيل نفسها اليوم، بعد 7 أشهر من عملية «كاسر الأمواج» التي أطلقتها لمواجهة «كتيبة جنين»، أمام حالة من المقاومة المتدحرجة - مثّلت «عرين الأسود» أحد أبرز تجلّياتها -، التي تحوّلت إلى ظاهرة شعبية متجذّرة. وفي هذا الإطار، يرى المحلّل العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أنه «على رغم عدد أعضائها القليل، فإن أيّ ادّعاء بشأن تحطيم المجموعة في الفترة القريبة لن يكون موثوقاً»، لافتاً إلى أنه «لا توجد هنا خلفيّة تنظيمية راسخة أو هرمية واضحة، ولذا لا يمكن رصد انتماء ناشط كهذا أو ذاك إثر مقتله أو اعتقاله». ويرى أن «عرين الأسود هي عملياً فكرة أكثر من كونها بُنية تنظيمية، وكونها كذلك يصعّب وقْف انتشارها»، مشيراً إلى أن «حقيقة أن مئات الفلسطينيين تجمهروا حول المستشفى في نابلس، حيث تمّ إحضار الجرحى وجثث القتلى، تدلّ على أنه توجد هنا ظاهرة شعبيّة تتزايد، ولن تُقمع بسهولة».
من جهته، اعتبر المحلّل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشواع، أن الصورة التي عمّمها الجيش الإسرائيلي لرئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، ورئيس «الشاباك»، رونين بار، ورئيس شعبة العملية، عوديد بسيوك، في غرفة قيادة العمليات أثناء العملية العسكرية في نابلس، «لا تخدم الردع الإسرائيلي»، قائلاً: «عندما يبثّون أن قيادة رفيعة بهذا المستوى أدارت حدثاً كهذا ضدّ تنظيم صغير، فإن ذلك، على العكس ممّا يُراد منه، يُعظّم عرين الأسود أكثر. صور كهذه يتمّ نشرها عندما يتمّ اغتيال محمد ضيف (القائد العسكري لكتائب القسام في قطاع غزة)». وتَشكّلت «العرين» من مجموعة شبّان ذوي خلفيّات تنظيمية مختلفة، واستطاعوا تجاوُزها كلّياً، واجتمعوا على هدف واحد هو مقاومة إسرائيل عسكرياً. ومن هنا، تُثار أسئلة كثيرة في الكيان حول تمويلهم وتسليحهم وقيادتهم وتخطيطهم، ومدى انحصارهم في البلدة القديمة أو انتشارهم في خارجها، وفق ما تدلّ عليه حالة سلمان عمران الذي حُوصر واعتقل في بلدة دير الحطب قبل أسابيع.
وبسببٍ من تلك الهواجس، فرضت إسرائيل حصاراً مطبقاً على «عرين الأسود»، مانِعةً تقديم أيّ مساعدة لها، وسط اتّهام لحركة «حماس» بتمويل المجموعة بالمال والسلاح، عن طريق مصعب اشتية. كما مارست ضغوطاً على عائلات المقاومين والشهداء، على غرار ما جرى صباح الأربعاء من اعتقال لشقيق الشهيد إبراهيم النابلسي، وعمّ الشهيد أدهم الشيشاني، ومداهمةٍ لمنزل المقاوم المطلوب المصاب تيسير الخراز. كذلك، شدّدت السلطة قيودها على المجموعة، لا من خلال اعتقال اشتية فقط، ومحاولة تقديم عروض لعناصرها لتسليم أنفسهم مقابل الحصول على «عفو» إسرائيلي، بل عمدت أخيراً إلى اعتقال أكثر من 10 عناصر في الأجهزة الأمنية، معظمهم من البلدة القديمة في المدينة، بسبب قُربهم من عناصر «العرين»، وخشية أن يكونوا على صِلة بعملهم أو يقدّموا لهم مساعدات.
تعليقات: