يقطع المواطن ما بين 120 و180 كلم ذهابًا وإيابًا ليقبض راتبه من زحلة (Getty)
إذا كان البقاعي المنكوب قد أطلق على محافظة بعلبك-الهرمل صفة "الربع الخالي" كناية عن الانهيار الدراماتيكي لمظاهر المدنية فيها، فإن هذه السّخرية سرعان ما استحالت حقيقة عبثية تثقل كاهله المنهك. وإذا كانت الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية تستفحل في البقاع الشمالي بوتيرةٍ أشدّ قسوة وشراسة عن غيرها من المناطق، وبالتالي تُضاعف فرص بروز البقاعي كمواطن منفلت وخارج على القانون، فإن هذه الأزمات ذاتها استنزفت ما تبقى من طاقته التمردية. واليوم يقف هذا البقاعي مكتوف اليدين لا حول له أمام إمعان السّلطة في تفقيره وإذلاله، مسلوبًا مما تبقى من فتات المدنية المشوهة، وصار حتّى في وديعته المصرفية ومعاشه الشهري الفاقد لقيمته أصلاً، مرتهنًا لمزاجية أصحاب المصارف الذين قرروا بصورة ممنهجة تصفية أعمالهم في المحافظة، ونقل إدارات فروعهم إلى زحلة والفرزل.
إقفال مباغت
في مدينة الهرمل والجوار، أقفل "جمال تراست بنك" فرعه قبل الأزمة بمدة قصيرة، بعد فرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات عليه، بتهمة التورط بتقديم خدمات مصرفية لحزب الله، لتلحق به إدارة كل من "فرنسبنك" و"البنك اللبناني للتجارة" (أبقى على صرافه الآلي فقط) و"بنك سوسيتيه جينرال" في مسلسل الإقفالات المباغتة وغير المبررة، وذلك في بدايات الأزمة المصرفية والاقتصادية. الأمر الذي جعل حسابات الموظفين والمودعين تنتقل تلقائيًا إلى فروع في مناطق أخرى كبعلبك وزحلة والفرزل، والتّي تبعد عن الهرمل ما بين الستين والتسعين كلم ذهابًا فقط.
وبذلك، لم يتبقَ في مدينة الهرمل وجوارها من بلدات وقُرى مصرف واحد، ما حال دون إمكانية سحب الرواتب والودائع بأريحية كما السّابق.
هذا الواقع سرعان ما انسحب ليطال قضاء بعلبك ببلداته، فبعدما قامت عدّة مصارف بتصفية أعمالها في بداية الأزمة كـ"بنك الاعتماد" و"سوسيتيه جينرال" و"جمال ترست بنك" و"بيبلوس" وغيرها، كان ختامها بإقفال فرع "فيرست ناشينوال بنك" منذ عدّة أيام. فبقي "فرنسبنك" و"صادرات إيران" و"بنك بيروت والبلاد العربية". واليوم راجت شائعات عديدة مفادها أن إدارة "فرنسبك" تقوم تدريجيًا بنقل فرعها إلى زحلة أسوةً بباقي المصارف. يحدث هذا وسط غضب شعبي. إذ أن المصارف المتبقية لا تمتلك شعبية واسعة في صفوف المواطنين البقاعيين، الذين قاموا سابقًا بتوطين حساباتهم المصرفية في فروع المصارف التّي أغلقت تدريجيًا، وخصوصاً في "فرنسبنك".
وفي هذا السّياق، حاولت "المدن" التأكد من صحة الشائعات المتداولة، وتواصلت مع إدارات عدّة مصارف في قضاء بعلبك وبالأخص مع إدارة "فرنسبنك". إلا أن الإدارة تحفظت عن الإدلاء بأي تصريح يحسم السجال الحاصل أو منح أي جواب واضح. وعلمت "المدن" من مصادر مقربة من إدارة "فرنسبنك" أن الأزمة حقيقية وهناك نية لنقل الفرع من مدينة بعلبك إلى زحلة والإبقاء على الصراف الآلي فقط. وقد باشرت إدارته بنقل الموظفين تدريجيًا، وسط خلافات محتدمة في مجلس الإدارة، وقرارات متفاوتة لم تُحسم بعد، مع أرجحية كبيرة لإغلاق الفرع.
الإمعان في الإذلال
في حديثه مع "المدن" يصف حسين جعفر، وهو متقاعد من قوى الأمن الداخلي، معانته في التنقل من بيته في الهرمل نحو فرع بنك الإعتماد لسحب راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز المليوني ليرة، قائلاً: "لتزويد سيارتي بالنزين اضطررت لدفع ما يقارب المليون و200 ألف ليرة للوصول إلى زحلة التّي تبعد 80 كلم، أي ما يتعدى نصف معاشي. ومؤخرًا صرت أتفادى سحب معاشي شخصيًا، مستعينًا بابني الذي يدرس في بيروت، كي يسحبه لي أحيانًا كل شهرين في طريقه من بيروت إلى الهرمل. فمعاشي أصلاً فقد قيمته، ولم يكن ينقصني سوى أن أدفع ما تبقى منه لتحصيله".
فيما يُفيد محمد زعيتر، وهو موظف في شركة، لـ"المدن" أنه يعاني من المشقة نفسها. فمعاشه الذي لا يتجاوز الأربعة ملايين شهريًا بات عبء سحبه من البنك كبيراً جدًا، فبعد إقفال "البنك اللبناني للتجارة" فرعه في بعلبك، وثم تعطيل الصراف الآلي، بات مجبرًا أيضًا على تكلف ما يقارب 500 ألف ليرة بدل النقل من قريته في قضاء بعلبك إلى رياق.
وتشير مصادر "المدن" في إدارات عدّة فروع لبنوك أقفلت مؤخرًا، أن سبب هذه الإقفالات المنظمة، ما هو سوى محاولة لاستباق ما يحدث الآن من اقتحامات المودعين للمصارف في مختلف الأراضي اللبنانية، خصوصاً أن غالبية أبناء منطقة بعلبك-الهرمل يمتلكون الجرأة على مواجهة أي شكل من أشكال الصدّ بالترهيب والسّلاح. ناهيك عن الوضع الأمني المهزوز والذي قد يتفجر في أي لحظة، متخذًا طابعًا عنفيًا سبق وأن شهدته المنطقة بصورة دورية.
ولا شكّ أن هذه المصارف لم تعبء في قرارها بإغلاق فروعها بحاجات المواطنين والأعباء الهائلة التّي أضافتها إلى سجل من الأزمات على كواهلهم. ففي حين تمركزت المصارف بعيدًا عنهم، وجعلت الموظف والمودع إذا ما استطاعوا سحب أموالهم يضطر لتكبد مشقة الطريق الطويلة والتّي تتراوح بين 120 إلى 180 كلم ذهابًا وإيابًا من بعلبك أو الهرمل إلى أقرب فرع في زحلة، وتكاليف النقل التّي تساوي راتبه الشهري إذا كان موظفًا في القطاع العام، وثلث راتبه إذا كان موظفًا في القطاع الخاص، إن بسيارته الخاصة أو بنقل عام.
التجار والمزارعون في تململ أيضًا
إقفال المصارف لم ينعكس فقط على الموظفين في القطاعين العام والخاص، بل امتد ليشمل كل من المزارعين والتجار في المنطقة، فهذه الإغلاقات أثرت طرديًا على الأمان المالي لهؤلاء، بل وأضافت أعباء إدارية إضافية على كواهلهم. وفي هذا الصدد يُشير رئيس تجمع مزارعي البقاع إبراهيم الترشيشي لـ"المدن": "من دون شك، هذه المصارف لها دور مهم في تسيير أمور القطاعات الإنتاجية وخصوصاً القطاع الزراعي. ووجودها في البقاع شكّل باب أمان للمزارع البقاعي، من جهة تسليفها للقروض الميسرة سابقًا، ومن جهة أخرى سحب الحوالات والإيداعات من الخارج ومن الدولة بعد بيع المحاصيل وتصديرها. أما اليوم، فنحن في حالة ذهول من الواقع المعاش. ففي البداية قاموا بنهب أموالنا وودائعنا، ولم تعد هناك أي قروض تيسر أمور المزارع، والتّي يحتاح لها كرأسمال في المرتبة الأولى، وأخيرًا إقفال الفروع في المنطقة من دون حجة واضحة أو منطقية. كما أن تضارب صرف الدولار بين البنوك والصرافين يؤدي لخسارات كبيرة تقع على كاهل المزارع".
وأضاف، "نحن ضدّ إغلاق أي فرع مصرفي في المنطقة. أما بالنسبة لمركزية المصارف في منطقة دون سواها فهي مجحفة بحق سكان المناطق أخرى، وإن كان أغلب المزارعين أوقفوا التعامل مع هذه المصارف بعد فقدانهم الثقة. ونطالب اليوم بإجتراح بحلول جذرية لهذه الأزمة، التّي تطال الجميع من دون إستثناء".
وأكدّ حسين عواضة، رئيس جمعية التجار في الوسط التجاري في بعلبك، أنهم ما عادوا يتعاملون مع المصارف، وأن إغلاق الفروع لا تأثير فعلياً له على حركة التجارة في بعلبك.
في حين تنكر المصارف اللبنانية مسؤوليتها المباشرة في تأجيج الأزمة المصرفية والمالية والنقدية الحاصلة، لا تزال وبالرغم من كل هذا الإنكار، تُمعن في إذلالها للمواطنين والمودعين، وما خطوة إقفال المصارف في منطقة بعلبك- الهرمل سوى نتيجة حتمية لتهميش المنطقة وعدم احترام تطلعات سكانها. بل إن التذرع بالمخاطر الأمنية ليس إلا شماعة لتنصل المصارف من واجباتها تجاه المواطنين عمومًا والبقاعيين على وجه الخصوص.
تعليقات: