تعديلات لم تعدّل «السرية المصرفية»: قوانين مجلس النواب تُصاغ بـ«التفنيص»

خلال إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية في الجلسة التي حضرتها السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، في 26 تموز 2022.. تخللها هرج ومرج
خلال إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية في الجلسة التي حضرتها السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، في 26 تموز 2022.. تخللها هرج ومرج


خلال إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية في الجلسة التي حضرتها السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، في 26 تموز 2022، طلب رئيس مجلس النواب نبيه بري إدخال تعديلات لدمج مشروع القانون المحال من الحكومة والمشروع الذي سبق أن ردّه رئيس الجمهورية ميشال عون. لكن ما حصل، فعلياً، هو أن النسخة النهائية الصادرة عن مجلس النواب لم تتضمّن أي دمج، إضافة إلى حذف تعديلات صوّت النواب عليها بالإجماع. ما كان يمكن أن يؤخذ بحسن نية كـ«خطأ غير مقصود»، يتبيّن أنه متعمّد، إذ تكرر الأمر نفسه في الجلسة الأخيرة (16 تشرين الأول 2022) التي أقرّ فيها البرلمان تعديلات جديدة على قانون السرية المصرفية بعدما ردّه رئيس الجمهورية مجدّداً. سبق ذلك، غموض في ما يتعلق بالأرقام النهائية في قانون الموازنة، ولا سيما مع تعديل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لها داخل الجلسة من دون إطلاع النواب، وبما يخالف النسخة التي كانت تُناقش في الجلسة. ويبدو أن هذا النهج ليس مقتصراً على رئاسة المجلس والهيئة العامة، بل سبق أن اتُّبِع في اللجان أيضاً. ففي تموز الماضي، مثلاً، أدخل رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان تعديلات على اقتراح قانون الـ«كابيتال كونترول» أكّد هو زملاؤه أنها لم تُعرض على التصويت. وكذلك الأمر في ما يتعلق بالتعديلات الأخيرة على قانون السرية المصرفية التي نوقشت في لجنة المال والموازنة.

هكذا، بات يصعب على أي نائب - باستثناء الدائرة الضيقة اللصيقة برئيس المجلس وتضمّ نواباً من التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وحركة أمل - معرفة حقيقة المواد التي يُصدّق عليها، فيما ليس معروفاً من هي الجهة المكلفة بصياغة التعديلات عند إقرارها، علماً أن عمل موظفي المجلس يقتصر على تسجيل الملاحظات والتعديلات، أما القرار بإدراجها كما اتُّفق عليها أم لا، فيعود إلى رئيس المجلس حصراً. لذلك، تبقى هذه الآلية سرّاً من «أسرار الآلهة» في البرلمان، فيما يتوجّب على النواب الإصرار على صياغة الفقرات علناً أمامهم والتصويت عليها ليتأكدوا من الصيغة التي يصدّقون عليها، وإلا فإنهم يُعدّون شركاء في «التزوير».

على هذا المنوال، جاء إقرار التعديلات النهائية على قانون السرية المصرفية. فقد تضمّنت النسخة الصادرة عن مجلس النواب، والتي وقّعها رئيسا المجلس والحكومة، عبارات ملغومة تقيّد مفعول رفع السرية المصرفية وفق ما يريده المصرفيون، عبر ربط رفع السرية بقرار حاكم مصرف لبنان وبشروط تعجيزية قد تتطلّب أعواماً لتحقيقها. أبرز الارتكابات في هذا السياق شهدته المادة السابعة، ما يعطي مزيداً من الحماية لناهبي المال العام على عكس ما يُفترض أن القانون يهدف إليه. فمنذ عامين تخوض كتل نيابية كبرى معركة رفض منح القضاء صلاحية رفع السرية المصرفية، وبدأ ذلك مع نواب الحزب التقدمي الاشتراكي بذريعة عدم الثقة بالقضاء. هكذا تم التذاكي في نسج هذه المادة لإرضاء صندوق النقد الدولي، ولكن مع إبقاء دور القضاء غامضاً ليجري تفسيره لاحقاً وفق الأهواء. فرغم كل محاولات بعض نواب« التغيير» ونواب حزب الله التمسك بمطلب رئيس الجمهورية ميشال عون منح النيابات العامة صلاحية رفع السرية المصرفية عن المشتبه فيهم، صدرت النسخة النهائية بصيغة ملتبسة. فقد تم التوافق في الهيئة العامة على عدم حصر صلاحيات رفع السرية بقضاة التحقيق وعدم ربطها بوجود دعاوى قائمة، وأكّد رئيس المجلس أنه أخذ بالملاحظات حول الإتاحة للنيابات العامة طلب المعلومات والاستقصاء قبل تكوين الملف والانتقال إلى الدعوى؛ وردت في النسخة النهائية من القانون عبارة «القضاء المختص في الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد والجرائم الواقعة على الأموال وفقاً لأحكام قانون العقوبات (...)». عدم إزالة كلمة «الدعاوى» يعني ضرورة تكوين دعوى قبيل أي طلب لرفع السرية، بما يستثني النيابات العامة لجهة الاستقصاء ورفض أي طلب لأي قاضي تحقيق أو نائب عام برفع السرية في حال عدم وجود دعوى. الهدف من ذلك، وفق المحامي كريم ضاهر، «تعطيل مفاعيل القانون بطريقة غير مباشرة، تماماً كما حصل في قانون الإثراء غير المشروع».

التعديل الثاني على القانون تجاوباً مع مطلب عون وصندوق النقد بمنح مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع الحق برفع السرية من دون ربطها بإعادة هيكلة المصارف، جرى أيضاً تلغيمه، وبقيت صلاحية هذه الجهات ملتبسة وقابلة للتقييد، إذ أُضيفت فقرة تربط تحديد المعايير والضوابط التطبيقية بمراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال. وإلى حين صدور هذه المراسيم، يُعدّ هذا التعديل لزومَ ما لا يلزم وتفريغاً للدور الذي أنيط بهذه الجهات. علماً أن هذه الفقرة أضيفت إلى النص من دون أن تخضع لنقاش جدي في المجلس ومن دون موافقة غالبية النواب.


ما من آلية توضح من يتولّى إدخال التعديلات التي يتم الاتفاق عليها على النصوص الأصلية كما هي

وفي المادة 23، أيضاً، وُضعت عقبة في وجه الإدارة الضريبية عبر دسّ فقرة تربط آلية طلبها للمعلومات من المصارف بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال. حصل ذلك رغم إصرار بعض النواب على عدم تقييد عمل الجهات الأربع المخوّلة برفع السرية وموافقة رئيس المجلس على عبارة «من دون الحاجة إلى المرور بأي مرجع آخر» التي لم ترد في النص. وبحسب ضاهر، فإن الخلاصة الممكن تكوينها نتيجة هذه الالتباسات والعقبات، أن السلطتين الوحيدتين القادرتين على رفع السرية وفق مواد القانون الصادر هما هيئة التحقيق الخاصة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، طالما تم ربط القضاء بالدعاوى. لكنّ النافذين في المجلس النيابي ربطوا صلاحية الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بقانون تشكيلها (175/2020) والقانون 189/2020، ما يجعل هذه الهيئة حكماً بحاجة إلى المرور بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان التي يرأسها حاكم مصرف لبنان، خصوصاً في ظل عدم إلغاء القانون 32، «ما يعني عوداً على بدء». علماً أن رئيس مجلس النواب أصرّ مراراً خلال الجلسة على إلغاء أي حصرية لهيئة التحقيق الخاصة في ردّه على المطالبين بهذا الأمر.

«الاحتيال» ينسحب أيضاً على المادة الثانية المتعلقة بمن لا تُطبق عليهم أحكام السرية المصرفية. وفيما جرى ذكر عائلات الموظفين العموميين ورؤساء الجمعيات وكل من يرتبط بهم، أبقيت السرية المصرفية على عائلات رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدرائها التنفيذيين، وأبقيت الحصانة أيضاً على عائلات أصحاب الوسائل الإعلامية. رغم كل ما سبق، يؤكد ضاهر أن القانون «مهم جدّاً في حال إصدار المراسيم التي تحدد الآليات وهو مرتبط بالنية لإجراء تعديلات على المواد الملتبسة، ما يستلزم متابعة من قبل الهيئات الأكثر تمثيلاً والمجتمع المدني وكل الجهات التي لها مصلحة في كشف الحقائق».

تعليقات: