الشاعر الخيامي عبد الحسين العبدالله.. شاعر النقمة الساخرة

الشاعر عبد الحسين العبدالله الخيامي العاملي (1896-1990)
الشاعر عبد الحسين العبدالله الخيامي العاملي (1896-1990)


غالباً ما تخرج من أشعار عبد الحسين العبدالله الخيامي العاملي (1896-1990) صاحب «حصاد الأشواك» إلا وأنت متدثّر بدثار الإحساس الدفين الممتلئ نقمة على أحوال تود لو لم تكن متلبسة بواقعنا التي جعلت منه مرتعاً لأقدار ملعونة لا تنفك عن الإمعان في تغربه وبعثرة مصيره حتى الشراهة.

هي روح التمرّد التي ما انفكت تتوالد وتلعن مواسم الهجرة وتتمسك بغواية الأمل والرجاء، في أشعار تسكن فيها البساطة متزينة بالعفوية التي تأبى التخشب، فكانت الطراوة المعهودة عنده مبلسمة لجراحات الحياة.

لا تحتاج إلى كثير عناء وأنت تقرأه، فاللغة المباشرة عبر تقنيات تحريك الصورة الحسية حاضرة، ما يجعلك كأنك في عصره بلا مسافات، عايش عصر الاحتلال الفرنسي وتعسف الحكام أيامهم وبعدهم وكأن كلماته تنبئك بما نحن مبتلون به اليوم، إذ يصور الواقع من خلال صورة هزلية تحتوش ألماً وحسرةً على حال مريرة:

قرودٌ على كرسي الشَّريعة تجلسُ / وأقزام أقوام علينا ترأسوا

حكومة هذا اليوم كالأمس لم يزل/ يُقرّب فيها الخائن المتجسسُ

وعهد رياض مظلم مثل غيره/ وأشقى من العهد القديم وأنحسُ

فلو كنتُ أدري أن هذا مصيرنا/ لما كان قبلي واحد يتفرنسُ

وما كنت لاقيتُ الذي قد لقيته/ فأُبعد عن أهلي وأُنفى وأُحبسُ

لم يكن شاعرنا مستنكراً لحال كلّ المشايخ ولكن لصنفٍ منهم. فهم الشاعر نفسياتهم وخبرها فقال متهكماً عليها:

نزلنا في جباع على الشّيو/ فقالوا ألف أهلا يا تنوخي

وسِرنا بين حشدٍ من لحاهم/ مسيرَ الطيرِ ما بين الفخوخِ

تكمن في شعره السياسي صورة كاريكاتورية عالية الفنية تجعل من المشهد نابضاً بالحركة والحياة وماثلاً أمامك بلا استئذان. فقد سُئل ذات مرة لماذا كلما هوجم الأجنبي في بلادنا، ارتفعت الشكوى من بعض اللبنانيين؟ فقال:

أجانب يحكمون بلا اعتبار/ بأذنابٍ لهم، منا، قصار

فإن ضُرب الحمار على قفاه/ تململ واشتكى ذنَب الحمار

يبدي الشاعر اندهاشه مما وصلت إليه أمور البلاد والعباد متمنياً العودة إلى الماضي لعله يستريح ويجد سكينة أكثر وعدالة ضائعة:

لبنان أرض عجائب ومهازل/ يودي القتيل ويحتفى بالقاتل

وأمام دار الحاكمين حفاوة/ بالمجرم الجاني لنصر الباطل

يا عهد سودت الوجوه فكلنا/ ود الرجوع إلى الزمان الراحل

إن حن واحدنا إلى عهد مضى/ كان الحنين إلى القضاء العادل..

لم يكن الشاعر في لحظة مهادناً ومنبطحاً كغيره أمام أمر واقع فرضه المنطق العائلي وحتى الحزبي مهما كان موقعه، إذ في قاموسه لم يعرف إلا أن يكون مقاوماً شريفاً يأبى الخنوع والخضوع، عندما اقتحم الصهاينة بلدة الطيبة عام 1948. بعد احتلال فلسطين، لم يحرك رجال أحمد الأسعد ساكناً ولم ويدافعوا عن البلدة وأمعن الصهاينة في غيهم وهدموا دارة الأسعد وخربوا ضريح عبد اللطيف الأسعد. وقتها قال واصفاً الحال:

يا قائد العشرين ألف مجاهد/ نسفوا مقرّك يا جناب القائدِ

ما للأشاوس عندما ناديتهم/ للذّود عنها ما ظفرت بواحدِ

ليست رجالك للحروب وللوغى/ فهُمُ رجالُ ولائمٍ وموائدِ

قد فرّ جندك واليهود وراءهم/ حوّطتُ جندكَ من عيون الحاسدِ..

أيُحكم جنوب الكرامة من قبل انتداب فرنسي مستعلٍ؟ في حينه وعلى سبيل الطرفة، كان المستشار باشكوف المقيم في صيدا يقتني كلباً يرافقه دائماً وكان يستعلي على الساسة ويحتقر الناس، وكان أحدهم ويدعى ذيب يحرس بابه ويسيء استقبال الناس، فقال الشاعر واصفاً الحال:

بباب المستشار رأيت كلباً / وذيباً، بئس ما حُكم الجنوبُ

يظنُّ رجالنا أبناء آوى/ ولم نكُ هكذا ولنا نيوبُ

إذا زأرت سباع الغاب يوماً/ فليس يخيفها كلب وذيبُ..

من القصص الطريفة التي حصلت مع شاعرنا أنه كان ذات يوم متوجهاً من وادي جيلو إلى صور برفقة جماعة من أصدقائه فتصدى لهم لصوص في طريقهم وسلبوهم، ولما أرادوا سلبه لم يعثروا في جيبه إلا على وريقات عليها بعض أشعار، فوصف هذه الحادثة:

قطع اللصوص لي الدروب وقبلهم/ قطعت حكومتي علي دروبي

خصمي الحكومة واللصوص كلاهما/ شاكي السلاح لحرب كل أديب

ودنا إلي من اللصوص ملثم/ صعب المراس يكر غير هيوب

أمسى يفتشني وأسخر ضاحكاً/ فسوى القصائد لم يكن بجيوبي

وخجلت منه حين قال لصحبه/ ما أشبه السلاب بالمسلوبِ..

يتباهى الشاعر بنفسه العزيزة على الرغم من الشكوى التي وصل إليها الشعراء المتعففون:

إذا رأيتُم رجلاً/ تحبّه كلّ القلوبْ

ممتلئاً كرامةً/ لكنّه فاضي الجيوبْ

فإنّه ـــ وأحرّ قلبي ــــ شاعرٌ من الجنوبْ..

يذكر أن أحد الشعراء كان معه قصيدة نثرية وتم اعتقاله على الحدود اللبنانية السورية للاشتباه به، فكتب الشاعر الخيامي عبد الحسين العبد الله في صورة رائعة ساخرة:

تحدّثني ولم أفهم عليها

كأنّ حديثها الشعر الحديثُ.

قصص من قلب الواقع ينقلها لنا الشاعر بكل تفاصيلها تاركاً للقارئ أن يحكم. فقد أبدى استهجانه واستنكاره من تصرف عادل عسيران وقتها معه وتجاهله له ولزميله موسى الزين شرارة:

أيا سيّارة الكديلاك سيري/ عليكِ ألف طنّ من غرورِ

مرّ الزعيمُ ولم يسلّم/ على موسى ولا العبد الفقيرِ

في ديوانه «حصاد الأشواك» صورة حية وكأنها تحكي حالنا اليوم، إذ يصور هؤلاء الذين لا يعرفون إلا التصفيق للزعماء على الرغم من معاناتهم وأوجاعهم من دون أن يقوموا بما عليهم:

مرّ الرئيس وكل قلبٍ مأتمُ/ وسهول صيدا لاجئٌ ومخيّمُ

هتف الجميع مصفّقين وهللّوا/ لا واحدٌ يشكو ولا يتظلّمُ

أنا لستُ أعجبُ من مُهانٍ واجمٍ/ لكن عجبتُ لمُوجعٍ يتبسّم

كذلك، يبدي نقمته على الذين يعطون أصواتهم بلا أدنى تفكير ومراجعة حال للذين يصادرون واقعهم وينغصون على الناس حياتهم:

برأي المستشار أو الوزيرِ/ نصوّت للبغال أو الحميرِ

لئن أخذوا من الأفواه صوتاً/ فما ظفروا بأصوات الضميرِ


في أدبه السياسي الساخر والناقم تصوير لحقبة التوتر والفتن والخداع والزيف والغبن والتلاعب بالضمائر وشراء الأنفس، ما خلق أزمة هوية وانتماء لمجتمع يعتاش على التقلبات والصراعات العائلية والحزبية التي تستحوذ على عقول الناس وتسوقهم وفق أهوائها، وهو أمرٌ لا نزال نحياه اليوم ولم يختلف أبداً عن عصر الشاعر، فالبُعد شاسع بين عامة الناس وبين زعمائهم المتلونين. وهذه مشكلة جوهرية حكمت وتحكم المجتمعات العربية والإسلامية منذ زمن وإلى اليوم.

معاناة الشاعر الذاتية ترخي بظلالها على شعره الذي يصوّر لنا بدقة متناهية بعض العادات التي كانت قائمة في بعض المناسبات ويبث شكواه من خلالها:

هبوا إلى عيدهم بين الأناشيد/ بالناي بالدف بالمزمار بالعود

ويمموا في الصباح الطلق معبدهم/ كمثل سرب من الأطيار غريد

يمر عيدي ولا أدري به أبداً/ متى تمر كعيد الناس يا عيدي ..

مما تقدم تعثر من خلال نصوصه المبثوثة هنا وهناك على رجل ساخط كثير الشكوى والعتاب المر يحاول شق طريقه بثقة كبيرة بحثاً عن الأمان النفسي المفقود، محلقاً بك على جناح الصور الحسية الدقيقة وهو صاحب الحظ العاثر الذي أصيب بنكبة الوجود وأضحى غريباً عن وطنه، متعمّماً بخيبة الأمل والإحباط واليأس، مفرط الحساسية أسير التساؤلات الحائرة في حياة ليس أمامها إلا الشعر سلاحاً يواجه به العالم.

في كل أشعاره، يتوالد التأمل الدقيق في الواقع ونقل صورته كما هي بلا تكلف وتعقيد، متوسلاً التزام النقد اللاذع من أجل التنبيه وتحريك اليقظة وبعث الصحوة في الضمائر الميتة علّه يحتفي بمن له أذن واعية.

تعليقات: