اغتيال عرفات: الحقيقة المُغيَّبة

اغتيال عرفات: الحقيقة المُغيَّبة
اغتيال عرفات: الحقيقة المُغيَّبة


ثمانية عشر عاماً مرّت على وفاة ياسر عرفات في مِثل هذا اليوم من عام 2004. ثمانية عشر عاماً ظلّ خلالها هذا الملفّ أشبه بلُغز مستعصٍ على التفكيك، وصندوق أسود عصيّاً على الولوج إليه. إلى الآن، لا نتائج واضحة معلَنة لعمل لجنة التحقيق التي كانت قد شُكّلت برئاسة توفيق الطيراوي عام 2010، لكنّ اشتداد صراع الخلافة بين «أولاد فتح» أدّى إلى انكشاف الكثير من المستور، وتسرُّب عدد كبير من الوثائق السرّية التي لم يَجرؤ أيّ منهم على إنكار صحّتها. وإذ يبدو جليّاً أن ثمّة مخطّطاً واضحاً، من وراء هذه التسريبات، لإزاحة الطيراوي من المشهد السياسي، وإخلاء الجوّ لحسين الشيخ وماجد فرج اللذَين يريدان الاستئثار بتِركة أبي مازن وحدَهما لا غير، فإن الوثائق تُظهر أن أبا عمار تعرّض لعملية اغتيال سياسي ومعنوي، كان محمود عباس و«شُلّته» شديدَي الضلوع فيها، سبقت تصفيته الجسدية، وهو ما يجلّيه قول الراحل في أيامه الأخيرة: «وُصلولي... خلّي الكرسي ينفعهم، شعبي والتاريخ لن يرحمهم». وإذا كان التاريخ «لن يرحم» بالفعل رأس السلطة الفلسطينية الحالي، الذي قضى على كلّ ما تبقّى من إرث ثوري، واستعدى مكوّنات المجتمع كافّة، واستحدث سُنّة الطرد من «أمّ الجماهير»، فهو، على العكس من ذلك، سيحفظ لأبي عمار، على رغم كلّ المآخذ على نهجه الحافل بالتناقضات، وعلى رغم «خديعة أوسلو» التي ثبت أنها لم تكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني، أنه القائد العسكري الذي لم يُسقط «السلاح من يده»، وتلك لوحدها أعادتْه إلى وجدان الناس، مبرَّأً من كلّ «خطيئة وطنية»، وطنياً فلسطينياً كـ«يوم ولدتْه أمه»



: قتلتْه «الشُلّة» قبل أن يُقتل

يوسف فارس

أوراق اغتيال عرفات: قتلتْه «الشُلّة» قبل أن يُقتل

غزة | طوال ثمانية عشر عاماً، بقيت واقعة تصفية الرئيس الراحل، ياسر عرفات، ملفّاً غامضاً، لم يطّلع عليه أحد. وحتى الحديث عن الكشف عن قتَلته أخَذ في السنوات الأخيرة منحى المناكفات الحزبية بين الأقطاب المتنافسة في حركة «فتح» من جهة، وبقيّة الفصائل من جهة أخرى. غير أن التمهيد لمرحلة ما بعد محمود عباس، وما رافقه من حملة إقصاءات طاولت عدداً كبيراً من قادة الحركة التاريخيين، أَسهم في تفشّي رزمة كبيرة من أسرار التحقيقات، التي وإن لم تَكشف حتى اليوم هويّة القاتل، أو القتَلة، فقد أظهرت خفايا البيئة المحيطة بالراحل، ومراكز الثقل «الفتحاوية» التي تنافست على التآمر عليه حيّاً، وصولاً إلى قتْله مسموماً.

في مطلع شهر تشرين الأوّل الماضي، دشّنت جماعة «فتحاوية» أَطلقت على نفسها لقب «أبناء الياسر» عدداً من المنصّات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حملت إحداها اسم «أيقونة الثورة». أعلنت هذه الجماعة أنها حصلت، «بمساعدة الغيورين، على وثائق خطيرة وحصرية خاصة بقتل الرئيس أبو عمار»، لتبدأ بنشرها تدريجاً، وهي عبارة عن محاضر التحقيقات الأصلية للجنة التحقيق التي كانت قد شُكّلت برئاسة اللواء توفيق الطيرواي عام 2010، تطبيقاً لتوصيات المؤتمر الحركي السادس لـ«فتح» الذي عُقد عام 2009. ويشارك الطيرواي في عضويّة اللجنة، كلّ من اللواء كمال الشيخ، واللواء صائب العاجز، والعميد نايف الجياوي، وأضيفت في وقت لاحق 20 شخصية مهنية لـ«تسريع نتائج التحقيق»، فيما استدعت اللجنة مئات الشخصيات السياسية والأمنية والحرَكية من العاملين والمحيطين بـ«أبو عمار»، واستغرق عملها آلاف الساعات من العمل والتحليل، ولكن من دون التوصّل إلى أيّ نتيجة معلَنة.

وعلى رغم أن عمل «أيقونة الثورة» بدا في بداية الأمر جهداً فردياً، إلّا أنه اتّضح من طريقة النشر المتسلسلة، واحترافيّة الإخراج الفنّي، أن ثمّة فريقاً مهنياً يعمل بشكل مدروس وتدريجي، فيما أقرّ الطيراوي، الذي جرّده عباس من صلاحياته ومناصبه الأمنية، وأقاله في مطلع آب الماضي من رئاسة «جامعة الاستقلال»، بأن ملفّات التحقيق تعرّضت للقرصنة، وأن الهدف من ذلك تشويه صورته، مُحمّلاً الأجهزة الأمنية مسؤولية كشْف «المتورّطين».


دائرة الدم

تُظهر الوثائق المسرَّبة أن «أبو عمار» تعرّض لعملية اغتيال سياسي ومعنوي، سبقت تصفيته الجسدية. إذ كشف روحي فتوح، وهو رئيس المجلس التشريعي آنذاك، أن الرئيس الراحل كان يَدخل في الحصار ويَخرج منه، من دون أن يتّصل به عدد كبير من قيادات «فتح» وأعضاء «اللجنة المركزية». وفي شهادته على تلك المرحلة، يقول فتوح إن الوزير السابق نبيل عمرو، والمستشار الحالي للرئيس محمود عباس، كان قد وقف في وجه «أبو عمار» ذات يوم، وصرخ قائلاً: «نحن 40 سنة متحملينك، وأنت بتقرأ بيتين هالشعر وآيتين هالقرآن، هذا الكلام لم يَعُد يمضي، نحن لا نريد أن نكون شهّاد زور». من جهته، قال أكرم هنية، وهو مستشار عرفات وعضو الوفد الفلسطيني في «قمّة كامب ديفيد» لعام 2000، إن «القتَلة هم السياسيون الذين استفادوا بشكل مباشر من وفاة أبو عمار».


عباس كان قد اجتمع، خلال حصار عرفات، مع رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، آرييل شارون

غير أن التحقيقات تَكشف أن علاقة عرفات بدائرته المقرّبة، كانت أكثر تطرّفاً من ذلك. إذ كشف القيادي البارز في «فتح»، أحمد عبد الرحمن، أن الرئيس الراحل كان قد اعتدى على رئيس الوزراء السابق، أحمد قريع، بالضرب، موضحاً في شهادته أنه «كان هناك اجتماع في لندن، وقرأ قريع رسالة تحوي تعهّدات أمنية أمام أبو عمار، ففقدَ الراحل عقله، وأمسك بالورقة ورماها في وجه قريع، وأمسكه من عنقه، وضرَبه برِجله وطرَده». وأضاف عبد الرحمن متناوِلاً فريق أبو مازن الذي كان يغيظ أبو عمار: «كانوا يأخذون قرارات ليست في وقتها، جاء أبو مازن وقدّم تعهّدات أمنية للإسرائيليين قبل أن يوقفوا القتل والاعتداءات، ذهبوا واجتمعوا في غزة، وأرسلوا لنا هذا (العاهر) ياسر عبد ربه ومعه قرارات ونحن جالسون على الجسر في المقاطعة فأمسك أبو عمار الأوراق بغضب». ورأى الرجل المحسوب على فريق عرفات أن فريق عباس «كان يريد السيطرة على كلّ شيء، الإذاعة والتلفزيون، قرارات مجلس الوزراء»، متابعاً أن «أبو مازن أعطى الإسرائيليين ما لم يُعطِهم إيّاه أحد، فبماذا ردّوا عليه؟ لم يعطوه شيئاً ولعنوا أبوه (...) أبو مازن يقول علناً لا أريد انتفاضة ولا كفاحاً مسلّحاً، مفاوضات مفاوضات... هذا هو كلامه».


بناية العار

لعلّ واحدة من أهمّ المعلومات التي كشفتْها محاضر التحقيقات، أن عباس كان قد اجتمع، خلال حصار عرفات، مع رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، آرييل شارون، في إحدى الشقق الآمنة في مدينة رام الله، حيث اتُّخذ قرار التخلّص من الراحل. ووفقاً لشهادة اللواء غازي مهنا، وهو مدير المكتب العسكري لأبو عمار، فإن شارون اجتمع مع أبو مازن والقيادي المفصول من الحركة محمد دحلان واللواء نصر يوسف، إضافة إلى عدد كبير من أعضاء «المجلس الثوري» و«اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير» الذين ودّعوا عرفات مرّة واحدة بعد حصاره، ولم يعودوا إلى زيارته ثانيةً. يكشف مهنا أن عباس كان قد حضر إلى الاجتماع بحراسة إسرائيلية، مضيفاً أنه لدى وصول الأنباء إلى عرفات، جاءت ردّة فعله عنيفة جدّاً، إذ شعر يومها أن اللقاء مثّل «حجَر الأساس في عملية التخلّص منه». غير أن حادثة «بناية العار» لم تكن سوى واحدة من حلقات تآمر عباس على عرفات، إذ كشفت شهادة عضو اللجنة المركزية لـ«فتح»، جمال محيسن، أن عباس كان يتحرّك بسيّارة تابعة لـ«الارتباط» (الإسرائيلي) خلال فترة الحصار في وقت كان فيه سيْر المركبات ممنوعاً في رام الله. وأجاب محيسن سؤالاً للجنة التحقيق حول ما إذا كان يعتقد بأن «العلاقة كانت صحّية بين الأخ أبو عمار وأبو مازن؟»، بأنه «كان هناك خلاف عميق جدّاً، الحقيقة الكاملة بخصوص الخلاف مع أبو عمار محرجة ومخزية، وأنا أرجوكم أن نتجاوز هذه المرحلة».


ولاد فتح «وُصلولي»

انتهت سنتان من الهجوم الشامل الذي شنّه فريق عباس، وفق ما أقرّت به عشرات القيادات «الفتحاوية»، بمقتل عرفات مسموماً. وَضع الراحل، في يومٍ ما، يده على بطنه يشكو الألم، وقال «وُصلولي»، على رغم أنه استبعد دائماً أن يُقدِم أيّ من «أولاد فتح» على أذيّته جسدياً على رغم الأجواء المشتعلة حوله، وفق ما قاله صائب عريقات. إلّا أن «ولاد فتح قتلوه»، أكد الأخير، وتابع في شهادته: «للأسف الشديد، أبو عمار كان يعتمد على أشخاص يقومون بأشياء أنا لست قادراً على أن أفهمها إلى اليوم، مثل أبو علاء وأبو مازن، يعني لماذا يأخذون أشخاصاً ليفتحوا حسابات مالية في بنوك إسرائيل (...) هؤلاء إذاً قدّموا أوراق اعتماد لإسرائيل، وذهب أولاد فتح إلى واشنطن عند سعود الفيصل، هناك قلّص نبيل شعث صلاحيات ياسر عرفات». وختم عريقات مُقسِماً على القرآن بأن أبو عمار «قُتل مسموماً ومظلوماً» بعد أن فقد الأمل بالحلّ السياسي، خصوصاً إثر رفْضه في كامب ديفيد الاعتراف بأن هناك هيكلاً يهودياً تحت الحرم القدسي، لأن تبعات ذلك، ستقود إلى هدم المسجد الأقصى.

تكشف عشرات الشهادات، أيضاً، أن أبو عمار كان قد أشار إلى بطنه أكثر من مرّة قبل مرضه وبعد سفره إلى باريس، إحداها قال فيها بصوت متقطّع لأحمد قريع: «وُصلولي... خلّي الكرسي ينفعهم، شعبي والتاريخ لن يرحمهم». قضى أبو عمار في 11/11/ 2004، وبعد 18 عاماً من رحيله، وتأخُّر فتح التحقيقات في مقتله لـ6 سنوات، تَكشف المحاضر التي لم يستطع أيّ من أبطالها التشكيك في صدقها، أن دائرة الدم المشتركة في تصفيته، أكبر من أن تُحصر في عدّة أشخاص، وأن القاتل ليس مَن دسّ سمّ «البولونيوم» في طعام أبو عمار أو دوائه وحسائه فحسب، إنّما فريق واسع من الذين عملوا وفق ما قالت حنان عشراوي «على تغيير النظام، ويشعرون بأن أبو عمار لم يكن الشخص المناسب، وكنتُ مقتنعة بأنهم سيقتلونه في نهاية الأمر لأنهم أخذوا القرار وبقي التنفيذ» .



«كرزاي فلسطين» حاضراً أوّل: هكذا هشّم «أبو عمار»

يوسف فارس

أضحت عبارة «الذي قَتل عرفات هو مَن استفاد من غيابه عن المشهد»، لازمة كرّرها العشرات من القادة السياسيين الذين شملتْهم التحقيقات. بدت تلك اللازمة وكأنها التفاف على العبارة التي يُراد منها أن تشير إلى أن «أبو مازن وحاشيته هم مَن قتلوا عرفات»، لكن بطريقة لا تسجِّل على أحد نقطة سوداء ستصل في نهاية الأمر إلى «رئيس المقاطعة» الحالي. وإذا كانت للسياسيين حسابات تفرض عليهم وزْن أقوالهم بميزان الذهب، فقد كان رجال الأمن، وخصوم عباس الحاليون، ومَن بلغ من رجال السلطة من العمر عِتيّاً، أقلّ حيطة في حديثهم؛ إذ لم يُخفِ أحمد قريع، وهو رئيس الوزراء الذي تولّى الحكومة عقب استقالة حكومة محمود عباس، والتي فرضتْها الإدارة الأميركية على أبو عمار عام 2002، أنه سمع عباس يردّد أكثر من مرّة، أن «عرفات قد خرفن»، قبل أن يتجرّأ أفراد حاشية «كرزاي فلسطين» كما سمّاه أبو عمار آنذاك، مِن مِثل نبيل عمرو والطيب عبد الرحيم وحسين الشيخ، على استخدام عبارة «الرئيس خرفن» كمعزوفة يردّدونها في كلّ مجالسهم.

لم يكن الاغتيال المعنوي الذي تعرّض له «الختيار» مستنداً إلى الهَباء؛ إذ رتّب فريق عباس - وفق ما كشفت التحقيقات -، وشخصياتٌ التقت مصالحهم معه، مِن مِثل قائد «التيّار الإصلاحي» الحالي محمد دحلان، تلك المكيدة، وهو ما أضحى حقيقة تتجاوز التحليل، وفق إفادة حنان عشرواي التي قالت: «كنتُ مقتنعة بأنهم سيقتلونه في النهاية». لقد أصبح عرفات، بعد فشل كامب ديفيد وانطلاق الانتفاضة الثانية، «مستهدَفاً من قِبَل الإسرائيليين الذين أخذوا الضوء الأخضر من الأميركان»، بحسب ما قاله عضو «اللجنة المركزية لحركة فتح» جمال محيسن. رفع الأميركيون الغطاء عنه، وكذلك فعل العرب طبعاً. كان خطاب الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، في 19/3/2002، والذي أعلن فيه أن الشعب الفلسطيني «يستحق قيادة أفضل من القيادة الحالية»، الإيذان الحقيقي بالبدء بتجريد عرفات من صلاحياته؛ إذ بعد الخطاب بتسعة أشهر فقط، نجح اللوبي الأميركي - الإسرائيلي في إحداث تغيير بـ«الإكراه» في النظام السياسي الفلسطيني، باستحداث منصب رئيس وزراء صُمّم خصّيصاً لمحمود عباس. قبل ذلك، كان الأخير، وفقاً لشهادة قريع، «في أغلب لقاءاته الديبلوماسية والسياسية، يلمّح إلى دور أبو عمار في إفشال جهود السلام (...) بهدف رفع الغطاء عن أبو عمار وتشويه صورته أمام المجتمع الدولي، وأنا شاهد على عدد من اللقاءات التي عقدها أبو مازن مع الرباعية والأميركان، وهم كانوا يستمعون له، أبو مازن هو مَن أوصل أبو عمار إلى هذه المرحلة».


لم يكن الاغتيال المعنوي الذي تعرّض له «الختيار» مستنداً إلى الهَباء

المرحلة الأولى التي سبقت التصفية الجسدية كانت تهدف إلى تجاوز أبو عمار، وتحويله وفقاً لعدد كبير مِن شهادات مَن عايشوا تلك المرحلة، إلى «رئيس شرفي من دون صلاحيات». آنذاك، تُرك الراحل ضحيّة الحصارات المتكرّرة، ولم يَرفع أيّ زعيم عربي سمّاعة الهاتف للاطمئنان عليه، وفق ما يقول الحاج إسماعيل جبر، فيما يضيف المستشار الاقتصادي السابق لعرفات، محمد رشيد، في شهادته، أن عباس لم يَقبل الدخول على خطّ الوساطة مع إسرائيل لرفع الحصار عن عرفات، إذ ردّ على جهود مَن حاولوا إقناعه بذلك بالقول: «اللي طلّع الحمار على المأذنة ينزله (...) مَن يعطي النقود لمن يطخطخوا يحلّ مشكلته لوحده وليس شأني». لقد كان كرسي الرئيس مهيّئاً لعباس. لم يقبل شارون بـ«الأولاد» الذين يجلبهم للجلوس معه محمد دحلان، للبحث عن بديل. طلب «أصحاب الفكر السياسي»، ثمّ أعلن صراحة أنه يريد عباس. يقول رشيد، ويتابع: «قال شارون أنا أريد محمود عباس، وأنا مختلف في ذلك مع بيرس (...) قال شارون إنه يقبل أن يكون عرفات رئيساً للأبد، لكن من دون صلاحيات، وأن ينقل كافة صلاحياته إلى رئيس وزراء نستطيع أن نثق به، ونستطيع التعامل معه في الأمن والسياسة والمفاوضات».

من وُجهة نظر كلّ الشهود الذين أدلوا بإفاداتهم، كان قبول عرفات باستقالة حكومة أبو مازن، هو الفيصل الذي وضع خيار التصفية الجسدية على الطاولة. «تقولون أني كرزاي فلسطين... أنا سأستقيل»، قالها عباس، مقدّماً استقالته في أيلول 2003، فيما عرف كثيرون من المحيطين بعرفات أن قبول الأخير الاستقالة يعني التوقيع على شهادة وفاته، لأنه بذلك يُفشل الخطّة الأميركية الإسرائيلية لتهميشه، أي الخطّة «ب»، ولا يُبقي أمام أعدائه سوى الخطّة «أ»، وهو ما كان.



في ما وراء التسريبات: الشيخ يحارب الطيراوي

رجب المدهون

غزة | تحتدم معركة خلافة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، داخل حركة «فتح»، بين عضو «اللجنة المركزية» حسين الشيخ من جهة، والعضو المنافِس في اللجنة نفسها توفيق الطيراوي من جهة أخرى، فيما برزت أخيراً قضية التحقيقات في اغتيال الرئيس الراحل، ياسر عرفات، كورقة يُراد من خلالها تصفية الطيراوي سياسياً. ونشرت قناة على موقع التواصل «تلغرام» باسم «أيقونة الثورة»، قبل مدّة، جزءاً من وثائق تحقيقات اللجنة التي قادها الطيراوي في وفاة عرفات، بما يشمل محضر استجواب 200 شخصية قيادية وأمنية كانت تحيط بالراحل قبل وفاته. وبحسب ما علمته «الأخبار» من مصادر مقرّبة من الطيراوي، فإن ذلك ليس منفصلاً عن «خطّة يقودها الشيخ ورئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج، لإنهاء الطيراوي سياسياً، حتى لا يكون منافساً محتمَلاً على رئاسة حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير» (باعتبار أن هذه التسريبات سيكون من شأنها ضرب مصداقيّته واللجنة التي يرأسها، وإسخاط أبو مازن عليه، كوْنها تُظهر تورّط الأخير في مخطّط اغتيال عرفات). وتشمل هذه الخطّة، وفق المعلومات، حملة إعلامية وأخرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتسريبات صوتية وأخرى لوثائق، إضافة إلى التحريض على الطيراوي لدى أعضاء «اللجنة المركزية» ولدى عباس، بهدف استثارتهم ضدّ الرجل، ودفْعهم إلى طرْده من جميع المناصب التي كان يقودها في الحركة والسلطة على السواء.

وعلى الرغم من أن التحقيقات التي قادها الطيراوي لم تُفضِ إلى نتيجة واضحة معلَنة، إلّا أن طلب عضو «المركزية»، خلال السنوات الماضية، استكمال التحقيقات واستجواب شخصيات جديدة، جعَله هدفاً لخصومه، الذين يرون أنه قد يستخدم هذا الملفّ لتهشيمهم وتقوية فُرصه في خلافة «أبو مازن». وبعد أسابيع من نشر الوثائق المُشار إليها أعلاه، أصدر مكتب الطيراوي بياناً يقرّ فيه بأنه تمّت قرصنة الأوراق الخاصة بعمل لجنة التحقيق (من دون أن ينفي صحّتها)، معتبراً أن «الهجمة المشبوهة التي يقف وراءها أعوان الاحتلال منذ ما يزيد على الشهرَين ليست صدفة ولا عبثاً، وإنما هي هجمة منظَّمة ومبرمجة تهدف إلى اغتيال سمعة اللواء توفيق الطيراوي السياسية ومصداقيّته، وضرْب عمل لجنة التحقيق ومنْعها من الوصول إلى الحقيقة الكاملة»، بعدما عملت «بصمت وهدوء ومثابرة لسنوات عدة للحفاظ على سرّية التحقيق بشكل حديدي».

وألقى مكتب الطيراوي باللوم على قادة الأجهزة الأمنية الذين لم يبذلوا جهدهم لمنع تسرُّب الوثائق، قائلاً: «كنت آمل من الأخوة قادة الأجهزة الأمنية إبداء اهتمامهم من واقع المسؤولية المُلقاة على عاتقهم في حماية اللجنة وأعضائها ورئيسها، وأن يتّصل بي أحد منهم للسؤال عن الموضوع». وألمحَ إلى وجود «تواطؤ» عليه، مشيراً إلى أن «الأجهزة الأمنية تملك الوسائل الكفيلة بكشف مَن يحاول قرصنة المواقع الخاصة في المؤسّسات الوطنية، علماً بأنني ومنذ بداية التسريبات اتّصلْت بأحد قادة المؤسّسة الأمنية وأرسل لي خبراء، ولكن لم يردّ لي جواباً بالخصوص حتى اللحظة»، داعياً «الأجهزة الأمنية إلى مباشرة التحقيقات في هذه القضية وكشْف مَن يقف وراءها، إذ إن كلّ العاملين والموظفين والأعضاء والوثائق تحت تصرّف أجهزة السلطة».

وبدأت «الحرب» على الطيراوي منذ ستّة أشهر، بعدما زادت انتقاداته لوزراء حكومة محمد اشتية في رام الله، إضافة إلى انتقاده طريقة إدارة عباس للوضع الفلسطيني وتحكُّم الشيخ بكثير من القرارات. وانتشر تسريب صوتي للطيراوي في آب الماضي يتحدّث فيه عن تورّط أمين سرّ «اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير»، «أبو تالا»، في «فضائح مالية وأخلاقية». وسبق ذلك بأيام نشْر تسجيل له يوجّه فيه شتائم وإهانات شخصية إلى عضو «اللجنة المركزية لحركة فتح» جبريل الرجوب، إضافة إلى اتّهامه ماجد فرج بأنه كان «عميلاً» للمخابرات البريطانية خلال فترة حُكم عرفات.



بين «الرمز» والرئيس الكاره: هذا ما يُحفظ لـ«أبو عمار»

يوسف فارس

غزة | لم يحظَ أبو عمار في حياته بالشعبيّة والإجماع الوطني نفسَيهما اللذين حصل عليهما بعد وفاته. رئيس حركة «فتح» و«منظّمة التحرير»، سَجّل مسيرة مزدحمة بالتناقض والجدل؛ فهو المقاتل الذي صنعت المتاريس والبندقية بطولته وزعامته، سواءً في حرب «الجهاد المقدس» التي انخرط فيها تحت قيادة عبد القادر الحسيني، أو في «حرب الفدائيين» في قناة السويس، أو في تفجير نفق «عيلبون»، ثمّ أمسى المُفاوض الذي «باع وفرّط وتنازل»، وصولاً إلى مشاركته في جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، عام 1995، كما فعل خلَفه محمود عباس في جنازة رئيس حكومة العدو الأسبق، شمعون بيريز، عام 2016. غير أن الفارق العجيب أن «الرمز» أُجبر على دخول باحة استقبال المعزّين، من الباب الخلفي، وعلى خلْع كوفيّته وبزّته العسكرية. فضلاً عن ذلك، لم تخلُ فترة حُكم عرفات من ممارسةِ أشدّ أساليب القمع بحقّ خلايا حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، حيث يسجّل التاريخ الشعبي ضربة عام 1996، التي اعتَقل فيها جهاز الأمن الوقائي كافة العناصر القيادية الفاعلة في الحركتَين. لكن، يحق القول إن لقب «الرمز» أضحى وصفاً فلسطينياً مقروناً بالرجل، كما تحوّلت عباراته التي كانت تثير سخرية المنافسين، إلى شعارات وطنية، يردّدها قادة بحجم يحيى السنوار، فمِن أين للراحل هذه الرمزية؟

تَحفظ الذاكرة الجمعية لأبو عمار تَمكّنه من تحقيق إنجازات اقتصادية ملموسة، على رغم أنها غُلّفت بقائمة كبيرة من التنازلات الوطنية. ففي عهده، تمكّن الفلسطينيون، لأوّل مرّة في تاريخهم القديم والمعاصر، من السفر عبر مطار دولي مُقام على أرضٍ تحت سيطرتهم الصرفة، سافروا منه إلى مختلف دول العالم، وعاشوا فترة رخاء اقتصادي لم تتكرّر إلى اليوم، فضلاً عن واقع حياة شبه مستقرّ، اجتهد كلّ مَن خلفوه في تحقيق نصفه. من جهة أخرى، تَفرض المقارنة بينه وبين أبو مازن نفسها على «الفتحاويين» ومُعارضيه من الفصائل الأخرى. على رغم كمّ التحفّظات الكبيرة على «النهج العرفاتي»، فإن عشر سنوات من حُكمه لم تشقّ النسيج المجتمعي الفلسطيني، ولم تشهد انقسام حركة «فتح» إلى «فتوحات متناحرة»، أو وصْم الأجهزة الأمنية وعناصرها، وهم مكوّن كبير من الشارع، بتُهم «العمالة والخيانة وحراسة الاحتلال». إلى جانب ذلك، لم يتعاطَ الرجل على أنه رئيسٌ مؤسّساتي لدولة مكتملة المعالم، بقدْر ما احتفظ لنفسه بصِبغته الثورية؛ فهو الحاكم الأبوي الروحي لسلطة تركت ثورتها في الجوهر، لكنها احتفظت بالكاريزما والخطاب والظاهر.


حَظيِت خطابات أبو عمار باهتمام الشارع وحماسته، وذلك على عكس الرئيس البرجوازي الحالي

حَظيِت خطابات أبو عمار باهتمام الشارع وحماسته، وذلك على عكس الرئيس البرجوازي الحالي، الذي أهمل في خطابه المعلَن وممارسته العملية، كلّ عناصر الجذب الشعبي، بل واستعدى جميع مكونات المجتمع، من العشائر إلى الفصائل والعائلات التاريخية، وحتى الكيانات النقابية. ظَهر «رجل المقاطعة الحالي» في صورة الغريم الذي يَعتبر نفسه الأذكى والأكثر فهماً من الجميع، فيما كانت بيئة العداء له تسير على نحْو عكسي، أي ليس من الناس إلى حاضنته في «فتح» والسلطة. في هذه الأخيرة، ضيّق الخناق على كلّ مَن انتقده، واستحدث لأوّل مرّة سُنّة «الطرد من أمّ الجماهير» في حق كلّ مَن خالفه، أو أيّد أيّاً مِن مُخالفيه، فضلاً عن أنه دمَج بين صلاحيّاته في السلطة والتنظيم، وأضحى قطْع الرواتب التي يتلقّاها المخالفون من السلطة مقابل عملهم الوظيفي، سيفاً بيده يقتصّ من شعبيّته أكثر.

أخيراً، قضى أبو عمار شهيداً كما كان يردّد: «ع القدس رايحين شهداء بالملايين»، محاصَراً ومحارَباً من العرب والغرب والإسرائيليين على حدٍّ سواء. رحَل بعد أنْ أدرك، صادقاً مع نفسه، أن برنامج المفاوضات لم يكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني، فغدا بعد أنْ قلَب الطاولة في وجه الجميع، وأعطى الإذن بعسكرة الانتفاضة، القائد العسكري الذي لم يُسقط «السلاح من يده»، وتلك لوحدها أعادتْه إلى وجدان الناس، مبرَّءاً من كلّ «خطيئة وطنية»، وطنياً فلسطينياً كـ«يوم ولدتْه أمه».



مراجعات من زمن الانتفاضة: عرفات أمدّ «حماس» بالسلاح

رجب المدهون

غزة | كثيراً ما يثارُ في أوساط حركتَي «حماس» و«فتح»، الحديث عن الدور الذي لعبه الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في تحريك المقاومة المسلّحة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وسط شهادات تشير إلى توجيه من أبو عمار، في إحدى مراحل الانتفاضة، بغضّ الطرف عن «حماس» لتتمكّن من تنفيذ عمليات فدائية، فضلاً عن إرسال الراحل أموالاً إلى شخصيات قيادية في الحركة لتنفيذ عمليات في بداية الانتفاضة. وتُفيد معلومات حصلت عليها «الأخبار» من شخصيات «حمساوية» و«فتحاوية» بأن عرفات قدّم، بالفعل، على رغم الاختلاف في النظرة إلى العمل المسلّح بين الحركتَين، دعماً للجناح العسكري لـ«حماس»، لاعتقاده بأن اشتداد المقاومة سيدفع إلى تحريك المسار السياسي من جديد، والقبول بالمطالب الفلسطينية، وبدء مفاوضات الحلّ النهائي وإعلان الدولة الفلسطينية، على عكْس «حماس» التي كانت ترى أن نهج المفاوضات خاطئ من أساسه، وأنه يتعارض مع مصالح الشعب الفلسطيني وحقّه في كامل أرضه.

وبدأت الاتصالات بين الراحل و«حماس» عام 2000، بعد عودته خالي الوفاض من «قمّة كامب ديفيد»، وتنصُّل دولة الاحتلال والولايات المتحدة من مطلب إقامة دولة فلسطينية وتسوية الوضع النهائي، وأيضاً بعدما تعرَّض لتهديدات شديدة اللهجة من الإدارة الأميركية وعدد من الرؤساء العرب. والتقى أبو عمار، ابتداءً، شخصيات محسوبة على الحركة، كانت قد شكّلت حزباً سياسياً أُطلق عليه حينها «حزب الخلاص الوطني»، وناقش معها فشل «كامب ديفيد»، واقتحام شارون للمسجد الأقصى، وانطلاق انتفاضة الأقصى الثانية. حينها، أبلغ عرفات، قيادة «حماس»، بموافقته على التحرّك العسكري ضدّ الاحتلال من جميع الفصائل. وبقرار منه، أوْقف القبضة المشدَّدة التي كانت تفرضها الأجهزة الأمنية ضدّ «الحمساويين»، فيما تمّ الإفراج عن عدد من قادة الحركة وعناصرها.


بدأت الاتصالات بين عرفات و«حماس» عام 2000، بعد عودته خالي الوفاض من «قمّة كامب ديفيد»

أدّى ذلك إلى انفتاح خطوط تواصل وصداقة بين عناصر من «حماس» و«فتح»، وهو ما مكّن الأولى من شراء السلاح والذخيرة من عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. أيضاً، أوعز عرفات، في نهاية عام 2001 ومطلع عام 2002، بحسب المعلومات، إلى بعض الشخصيات المسؤولة في «كتائب شهداء الأقصى» في الضفة الغربية، بتوفير سلاح ومال لخلايا تابعة لـ«حماس»، لتنفيذ عمليات فدائية تفجيرية كبيرة داخل المدن المحتلّة، كنوع من الضغط على دولة الاحتلال و«المجتمع الدولي»، للاستجابة لمطالبه، على رغم أن أبو عمار كان في العلن يُصدر تصريحات يدعو فيها إلى وقف الانتفاضة والعمليات الفدائية. وبحسب شهادات أدلى بها عيسى النشار، أحد مُؤسِّسي حركة «حماس»، فقد ساعد عدد من رجال الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، بداية الانتفاضة الثانية، الحركة، على استحصال السلاح والذخيرة، عن طريق صداقات شخصية بين شبابها وأفراد الأجهزة. وفي الاتّجاه نفسه، أكد نائب قائد «حماس» في غزة، خليل الحية، في مهرجان فصائلي عام 2017، أن عرفات احتضن المقاومة وأوعز بتقديم الدعم لها .

وفي نيسان الماضي، أفادت صحيفة «هآرتس» العبرية بأنه أميطَ اللثام في الجيش الإسرائيلي عن مجموعة من الوثائق والملفّات الفلسطينية الرسمية والإسرائيلية الاستخبارية، تُبيّن، أن الرئيس الفلسطيني الراحل دعم بشكل مباشر العمليات المسلّحة، وعمِل عبْر عدد من القادة الميدانيين في «فتح» على تمويل هذه العمليات وتشجيعها، وساند عمليات فصائل أخرى مُنافِسة له (حماس) بغرض ممارسة الضغوط على حكومة الاحتلال.



«فتح» في ظلّ عباس: من «أمّ الجماهير» إلى «المزرعة السعيدة»

يوسف فارس

غزة | على رغم أن حركة التمرّد والانشقاق لازمت مسيرة حركة «فتح» منذ تأسيسها عام 1965، إلّا أن أهداف الانشقاقات ودوافعها بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، أصبحت مغايرة تماماً. إذ من الممكن تفهُّم انشقاق القياديَين أحمد جبريل ويوسف عرابي عن الحركة، عقب مرور عام واحد على انخراطهما في صفوفها، لا سيما أن القائدَين كانا يشكّلان حالات وطنية فاعلة في الساحة. كما أن انشقاق صبري البنا (أبو نضال) عام 1975، كان نتيجة متوقَّعة بعد تمدُّد «فتح» في عدد من العواصم العربية التي سعت إلى احتواء قرارها. غير أن أيّاً من المنشقّين سابقاً، وحتى في مرحلة تقييم ما بعد «الخروج من بيروت» عام 1982، لم يختلف مع الرئيس الراحل على تعامله مع «الثوابت الوطنية». في أوسلو مثلاً، استطاع «الختيار» أن يجمع شمْل مَن تبقّى من «أصوليّي الثورة»، وأَقنعهم برؤيته على رغم ما تضمّنته من تنازل عن 80% من أراضي فلسطين التاريخية.

غير أن ثمّة قطبة غامضة في ذلك، يشير إليها كلام مسؤول ملفّ المفاوضات، صائب عريقات، في محاضر التحقيق في وفاة عرفات. يتساءل عريقات مُعاتِباً أبو عمار: «إنهم يسرقونك، جاهزون لخيانتك، مالك حق يا أبو عمار تبقي هؤلاء حولك، أريد أن أفهم لماذا؟». غير أن تساؤلات عريقات لم تلقَ جواباً، فيما يوضح بسام أبو شريف وهو مستشار الراحل، أن الأخير، كان واعياً إلى أبعد مدى بتوازنات مراكز القوى في «فتح» و«منظّمة التحرير»، حيث أسهم فهمه لطريقة تفكير ونفسية بِطانته المحيطة، في حماية الحركة من التفكّك والانشقاق. بتعبير آخر، «أجاد عرفات اللعب مع الأفاعي طويلاً، قبل أن يقضي بلدغة من إحداها».

غير أن التحوّلات التي رافقت ما بعد عرفات في «فتح»، أفضت سريعاً إلى تصدُّع الجسم التنظيمي. بداية الشرخ تسبّب بها فصل عضو «اللجنة المركزية» محمد دحلان عام 2011، حيث ردّ على الإطاحة به بتأسيس تيّار «فتحاوي» مُوازٍ للحركة الأم، حمل اسم «التيّار الإصلاحي الديموقراطي لحركة فتح». شكّل تيّار دحلان واحدة من الحالات الفارقة في تاريخ الانشقاقات «الفتحاوية»؛ إذ استطاع الرجل المموَّل إماراتياً، أن يستقطب إلى جانبه عدداً كبيراً من القيادات التاريخية ونواب المجلس التشريعي، فضلاً عن تشكيل قاعدة جماهيرية تتجاوز حدود قطاع غزة الذي همّشه عباس، تنظيمياً وشعبياً وحكومياً، إلى عدد من مخيّمات الضفة والشتات. خلافاً لعرفات، لم يكن عباس شخصية جامعة، على رغم أن «فتح» كانت منذ «الختيار» حركة الرجل الواحد، إلّا أن النوازع الشخصية لدى الراحل بدت أقلّ حضوراً في التعاطي حتى مع خصومه، فلم تتحوّل «أمّ الجماهير» في عهده إلى «مزرعة العائلة السعيدة» كما هي اليوم.

وإذا استطاعت «فتح»، بوصْفها «قبيلة الشعب الفلسطيني» كما يحلو للبعض تسميتها، غسْل نفسها دائماً من ممارسات السلطة، بشخصيات «فتحاوية» قاتلت بشرف وأضحت ذات رمزية وطنية، مِن مِثل القائد مروان البرغوثي، فإن الأخير أيضاً ضاقت به تلك القبيلة، إذ لم يرتضِ له عباس الترشّح في الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تُعقد عام 2021، وانتهى به الحال إلى تشكيل تآلف مع عضو «اللجنة المركزية» في الحركة ناصر القدوة، الذي فصله عباس أيضاً، بعدما قرّر تشكيل قائمة انتخابية مستقلّة لخوض غمار الانتخابات العامة.

يحق القول، إن الخلافات التي قادت إلى الانشقاقات في عصر عباس، ليست شبيهة بتلك التي طرأت في عهد سلفه. ثمّة مشكلة ليس مع شخص رئيس السلطة الحالي فحسب، إنّما مع الاستراتيجية الوطنية التي اتّبعها في إدارة الصراع مع الاحتلال، تلك التي أسهمت، وفق ما يرى الباحث مجد ضرغام، في تخدير المطالَبة بالحق الفلسطيني، وتعطيل كلّ أشكال النضال الوطني، ما سمح بتمدُّد المشروع الاستيطاني، وفق المأمول الذي أُبرمت «اتفاقية أوسلو» - من وُجهة نظر إسرائيلية - خصّيصاً لأجله. يقول ضرغام لـ«الأخبار»: «أستطيع أن أفترض أن ثمّة طموحاً شخصياً أو حقاً نضالياً سيدفع قادة فتحاويين إلى التمرّد على عباس، الذي يُقصي كلّ مَن هو خارج دائرته المقرَّبة، لكن الانشقاقات الأفقية التي تعبّر عن النقمة الداخلية على فتح والسلطة التي تنسّق أمنياً، في أوساط القاعدة الشعبية للحركة، والتي يشكّل أبناؤها اليوم الحاضنة المقاوِمة في الضفة، هي التي يجب أن نفهم سببها. أبو مازن حوّل الصراع من صراع وطني إلى قتال لأجل تحصيل مزيد من المكتسبات الاقتصادية والرفاه الزائف، الذي يدفع فاتورته بالتنسيق الأمني، وهذا ما لا يَقبله الجمهور الفتحاوي».



تقوية التابوت بالإسمنت: «خايفين يطلع من القبر»!

يوسف فارس

«خايفين يطلع من القبر»؛ هذا ما ردّ به صاحب معمل الباطون الذي طُلب منه أن يؤمّن كمّية من الإسمنت المخصَّص لبناء الملاجئ المحصّنة، لسكبها فوق تابوتَي الإسمنت اللذَين وُضع فيهما جثمان أبو عمار داخل قبره في رام الله. تَكشف محاضر التحقيقات المسرَّبة، انعقاد جلسة في السادس من أيلول 2012 لدراسة وضْع القبر الخاص بالراحل، تمّ خلالها الاستماع إلى شهادات ستّة أشخاص من جهات هندسية وأمنية، ومن بينها قول الشيخ محمد الحيح، وهو آمر مركز تفعيل الحرس الذي شهد وقائع الدفن الأوّل لعرفات، إنه «وبسبب تدافُع الجماهير نحو الضريح، وُضع الجثمان داخل صندوقَين من الباطون أحدهما كبير والآخر صغير، ثم دُفن على عجل من دون مراعاة الضوابط الشرعية للدفن، كتوجيه جسده إلى القبلة»، وهو ما دفعه إلى أن يلقي بـ«أمانة إعادة الدفن وفق الضوابط الشرعية» على عاتق الشيخَين تيسير التميمي وهو الرئيس الأسبق للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي، وخطيب المسجد الأقصى ووزير الأوقاف الأسبق يوسف سلامة.

وعليه، قرّر أمين عام الرئاسة، الطيب عبد الرحيم، فتْح القبر ليلاً، والعمل على إزاحة التراب مِن حَوله، وخلْع ستّ بلاطات عنه، وفكّ التابوت وإخراج الجثمان والصلاة عليه. في تلك الليلة، وضَع المجتمعون الجثمان على جنَبه الأيمن، ووجّهوا وَجهه تجاه القِبلة، ثمّ فكّوا رباط الكفن عن رأسه وقدمَيه، وأعادوا وضع بلاطات القبر الستّ، وطمروها بالتراب. غير أن المفاجئ، وفق شهادة الحيح، هو استدعاء ثلاث شاحنات إسمنت من معمل يسمّى «الطريفي» لسكبها على قبر الرئيس، لكنه لا يعلم مَن صاحب القرار في ذلك. من جهته، أكد صاحب المعمل أنه تلقّى اتّصالاً يَطلب منه تأمين ثلاث سيارات باطون مقوّى (B400) على وجه السرعة، وهو ما يثبته أيضاً النقيب في حرس الرئاسة، طارق عبيدية، الذي يقول في شهادته: «وصلت سيّارتا باطون تتبعان مصنع الطريفي الساعة الثانية عشرة ليلاً، وتمّ سكبها فوق الصندوق الإسمنتي (القبر)، وقيل حينها إن هذا الإجراء لمنع سرقة القبر».


وضْع 70 سم من الإسمنت فوق تابوتَين من الباطون يؤكّد أن ثمّة مَن أراد أن يطمر سرّاً

أيضاً، أحد محاضر التحقيقات التي عُقدت في 8/9/2021، نقل حديث اللواء توفيق الطيراوي إلى المجتمعين: «المعلومات التي لدينا تشير إلى أن أحد الأشخاص اتّصل بجميل الطريفي (لديه مصنع باطون)، وطَلب منه ثلاث سيارات باطون B400 (نوع من الإسمنت يُستعمل للملاجئ غالباً)، ولا أريد أن يعرف أحد بالموضوع، فكان ردّ الطريفي: هو أبو عمار سيقوم من قبره؟». يضيف الطيراوي، الذي كان قد عَقد جلسة مع أربعة مهندسين مشرفين على القبر، تمهيداً لإعادة فتحه كي يقوم وفد فرنسي بأخذ عيّنات من الجثمان لاستكمال إجراءات التحقيق، أن «كمّية الباطون التي كانت في السيّارات إمّا 21 أو 27 كوباً، ولو كان هناك احتمال 1% فقط بأن الباطون قد تسرّب من الشقوق أو قد كسر بلاطة ودخل من التراب للجثمان، فكيف سيكون الوضع حينها؟ وماذا سنقول للوفد الفرنسي؟».

وعلى رغم أن الوثائق لم تكشف السبب الأساسي لضخّ كمّية كبيرة من الباطون على ضريح الرئيس الراحل، إلّا أنه ليس من الصعب الإجابة على تساؤلٍ كهذا؛ إذ إن وضْع 70 سم من الإسمنت فوق تابوتَين من الباطون، يؤكّد وفق إفادات لجنة التحقيق، أن ثمّة مَن أراد أن يطمر سرّاً كان جسد عرفات المسموم يُخبّؤه، لكن الأصعب، هو البحث عن الطريقة التي أقنع بها صاحب الفكرة، أصحاب القرار والحراسات الأمنية الذين لازموا الضريح طوال أيام، بمقترحه. جدير بالذكر أن لجنة من المهندسين والفنّيين كانت قد أعادت فتح ضريح عرفات للمرّة الثانية في تشرين الثاني 2012، وأعادت إغلاقه بعد أخْذ عينات من رفاته لمعرفة ما إذا كان قد تمّ تسميمه بمادة البولونيوم عام 2004، وذلك استجابة لشكوى تَقدّمت بها أرملته سهى عرفات. وأفاد التقرير الفرنسي وتقرير معهد سويسري آخر بالعثور على مادة «البولونيوم» المشعّ في بعض أغراض عرفات الشخصية، ورجّحوا أن هذا السمّ هو الذي تسبّب بوفاته.

تُظهر الوثائق المسرَّبة أن «أبو عمار» تعرّض لعملية اغتيال سياسي ومعنوي، سبقت تصفيته الجسدية (أ ف ب)
تُظهر الوثائق المسرَّبة أن «أبو عمار» تعرّض لعملية اغتيال سياسي ومعنوي، سبقت تصفيته الجسدية (أ ف ب)


المرحلة الأولى التي سبقت التصفية الجسدية كانت تهدف إلى تجاوز أبو عمار، وتحويله إلى «رئيس شرفي من دون صلاحيات» (أ ف ب)
المرحلة الأولى التي سبقت التصفية الجسدية كانت تهدف إلى تجاوز أبو عمار، وتحويله إلى «رئيس شرفي من دون صلاحيات» (أ ف ب)


ألقى مكتب الطيراوي باللوم على قادة الأجهزة الأمنية الذين لم يبذلوا جهدهم لمنع تسرُّب الوثائق (من الويب)
ألقى مكتب الطيراوي باللوم على قادة الأجهزة الأمنية الذين لم يبذلوا جهدهم لمنع تسرُّب الوثائق (من الويب)


رحل عرفات بعد إدراكه أن برنامج المفاوضات لم يكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني (من الأرشيف)
رحل عرفات بعد إدراكه أن برنامج المفاوضات لم يكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني (من الأرشيف)


ساعد عدد من رجال الأجهزة الأمنية «حماس» على استحصال السلاح والذخيرة (أ ف ب)
ساعد عدد من رجال الأجهزة الأمنية «حماس» على استحصال السلاح والذخيرة (أ ف ب)


التحوّلات التي رافقت ما بعد عرفات في «فتح»، أفضت سريعاً إلى تصدُّع الجسم التنظيمي (أ ف ب)
التحوّلات التي رافقت ما بعد عرفات في «فتح»، أفضت سريعاً إلى تصدُّع الجسم التنظيمي (أ ف ب)


تعليقات: