يبيعون أوراق إخراجات القيد في السوق السوداء (الانترنت)
ليس بالجديد هو نبأ الفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة، من أصغر إدارة رسمية فيها وصولاً لأبرز الوزارات السّيادية. وإن كان الفساد في هذه الإدارات مقرونًا دائمًا بالبيروقراطية المقيتة، التّي جعلت من المواطنين المراجعين ومنذ عقود يتوجسون من الولوج إلى الدوائر والإدارات الرسميّة إلا عند الضرورة القصوى، فإن الشلل الإداري التاريخي المستفحل منذ ما قبل الانهيار، وما أعقبه من إرتدادت وإفلاس وتوقف قسري في آخر ثلاث سنوات، جعل من رحلة المواطن من بيته إلى المراكز الرسمية، عبئًا لا بد منه، وبين فوضى المؤسسات والسمسرة المتغاضى عنها والمسلم بها والسوق السوداء للمعاملات، والمركزية المشلولة، بات المواطن في معاملاته الرسمية حتّى البسيطة منها، مرتهنًا لمزاجية موظفي دولته المضربين غالبًا من جهة، ولسعر صفيحة البنزين والطوابير المعتادة والتأجيلات المستمرة من جهة أخرى.
وكالعادة، تكون محافظة بعلبك-الهرمل السباقة الأشرس في إثارة الجدل العام، فمنذ أيام نشر الناشط علي مظلوم من بلدة بريتال البقاعية، على صفحة الفايسبوك الخاصة به، شهادة فضح فيها التجاوزات والفساد في دائرة النفوس في مدينة بعلبك مشيرًا لسوء المعاملة التّي قوبل بها من الموظفين المداومين في الدائرة المذكورة عند مراجعته لاستحصال على إخراج قيد فردي، وطالب الجهات الرسمية المولجة بالتحقيق والمراقبة البت بالقرارالحاسم والمعبر، ناهيك بإصدار توضيح لأسباب هذا الخلل الفضائحي. الأمر الذي أثار حفيظة سكان المنطقة وإشكالية واسعة في صفوف الأجهزة الأمنية والجهات الرسمية فيها.
فساد في دائرة النفوس
تحت عنوان "دائرة نفوس بعلبك: مشاهد مكررة من مسلسل يوميات مدير عام" اتهم الناشط علي مظلوم موظفي دائرة النفوس في بعلبك بالفساد والإساءة في معاملة المراجعين والمواطنين، راويًا ما حصل معه في الدائرة عند زيارته لها عدّة مرات مشيرًا لتفاجئه في زيارته الأولى منذ عدّة أشهر بموظفة تدعى ندين تقف عند مدخل الدائرة، ومهمتها تقاضي الرشاوى والإكراميات لتسهيل أمور المراجعين، وحسب قول مظلوم فإنها تقوم باستلام طلبات المواطنين الذين كان يبادر بعضهم علناً لاعطائها مبالغ مالية مقابل تسهيل معاملتهم. وأضاف: "تقدمت منها وسلمتها الطلب من دون رشوة فقالت لي "عد بعد أسبوع"! ليتبين لاحقاً أنها ليست موظفة رسمية بل سمسارة تعمل بغطاء من رئيسة الدائرة آيات النمر والموظف حيان اسماعيل، ومهمتها تسهيل معاملات الراشين والمدعومين وتسليمها لهم خلال دقائق، فيما يؤجل الآخرون لمدة اسبوع أو أكثر. وعندما سألتها عن سبب هذه المخالفة الفاضحة للقانون أجابت بكل وقاحة: "نحنا حرّين".
وقد تواصلت "المدن" مع الناشط علي مظلوم الذي فضل الاكتفاء بما شرحه في المنشور من دون الاستفاضة بالتفاصيل، مكررًا أنه عند مراجعته للمرة الثانية منذ حوالى الأسبوع قوبل بالسلوك الفج نفسه من قبل الموظفين، بالرغم من كون الموظفة ندين لم تكن متواجدة، ليحل محلها، حسب قوله، نافذة تُفتح للراشين والمدعومين وتغلق أمام المراجعين، قائلاً: "وكانت الرشاوى تدفع جهاراً نهاراً أمام أعين المواطنين، وفي حين فُتحت النافذة لشخصين كانا يقفان أمامي إلا انه لم يتم فتحها لي".
وقد أكدّ المظلوم في اتصالنا معه على كلامه السّابق في المنشور، أن ما يجري في دائرة نفوس بعلبك هو إهانة صارخة للمواطن والدولة، وهو أمر "نضعه برسم وزير الداخلية الذي نثق بحرصه على تطبيق القانون، وأنه لا يرضى بهذا الواقع المزري، وندعوه لوضع حدّ للمدعوة آيات النمر وموظفيها وسماسرتها سيما أنها من أقارب مسؤول منطقة البقاع في حزب الله حسين النمر الذي تستقوي به على الناس والدولة". فيما شدد أن هذه الطريقة الفجة في التعامل والتأجيل غير المبرر والفساد العلني استنزاف لطاقات المواطنين وانتهاك لكراماتهم، فالمواطن الذي يقصد هذه الدائرة متحملاً بُعد المسافة وتكاليف النقل وطوابير الانتظار، لا يستطيع فعليًا دفع مبالغ جنونية للرشوة تفوق رسوم المعاملات. أما الوساطات فهي الآفة الكبرى التّي تنخر في عمق الإدارات الرسمية.
أزمة إدارية وتدخل أمني؟
تواصلت "المدن" مع رئيسة دائرة النفوس في بعلبك آيات النمر، التّي أوضحت أن هذا السجال الذي حصل بين مراجع وموظفي الدائرة أحيل فورًا لإدارة الأحوال الشخصية المركزية، واعتذرت عن الاستفاضة في التفاصيل التّي اعتبرت أنها باتت من اختصاص الإدارة المركزية. وعليه تواصلت "المدن" مع إدارة الأحوال الشخصية بشخص رئيسها إلياس الخوري، بعدما أوضحت مصادر "المدن" في وزارة الداخلية أن مديرية الأحوال الشخصية قد وجهت كتاباً لدائرة النفوس في بعلبك لإيضاح أسباب هذا السجال والتحقيق فيه. وكان رد المدير عبر موظفة تواصلت مع "المدن" في المديرية، أن المدير قد كلف دائرة النفوس في بعلبك منذ الإثنين االماضي أي بعد يوم واحد من نشر الناشط علي مظلوم شهادته، بالتحقيق في هذا الحادث، وإذا لم تنته التحقيقات، ولم تتوصل الدائرة للأسباب المنطقية والأحكام المناسبة، قد يحال الملف لدائرة التفتيش المركزي. وقد علمت مصادر "المدن" الأمنية في بعلبك أن كل من جهاز أمن الدولة وشعبة المعلومات، قد باشرا التحقيق والتدخل فور معرفتهما بملابسات الحادث. مؤكدين أن مثل هذه التجاوزات لا يمكنها أن تمر مرور الكرام، بل وإنها مرفوضة قطعًا.
وفي زيارة "المدن" لدائرة النفوس في بعلبك، تبين أن ما فضحه مظلوم منتشر ومعتاد كما في غالبية الدوائر الرسمية التّي تزدحم بفساد وبيروقراطية موظفيها، وفي سؤالنا لأحد المخاتير الذين كانوا متواجدين في الدائرة عن معاناته في إتمام واجباته والاستحصال على المعاملات التّي يطلبها منه أبناء بلدته المتاخمة لمدينة بعلبك، ذكر أن بعض موظفي الدائرة هذه يبيعون أوراق إخراجات القيد في السوق السوداء لشحها ونقص الحاد في هذه الأوراق، والتي يتراوح سعرها بين 200 و500 ألف ليرة بينما يبلغ رسمها 15 ألف ليرة مع الطابع. أما الطوابع فإنهم يعانون في محاولة إيجادها، وإن وجدت فهي سوق سوداء حيث يبلغ قيمة طابع الألف ليرة حوالى 20 إلى 50 ألف ليرة. وأضاف المختار الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن الموظفة ندين بالفعل كانت موجودة، وقد علم من مصادر له في المحافظة أنها تشاجرت مع موظف في مركز المحافظة لينتقل السجال بينها وبين المحافظ وتُصرف من عملها. أما عن النافذة التّي تفتح للمرتشين وأصحاب الوساطات فهي موجودة، حسب ما ذكر المختار وهناك باب خلفي للمخاتير "المدعومين"، يدخلون منه مقدمين الرشاوى لتسهيل معاملاتهم حسب ما ذكر.
إن شئنا أرشفة المرات التّي أعلن فيها الموظفون العامون الإضرابات وأسبابها وارتداداتها، فضلاً عن المشكلات التّي تبدأ بالإمكانيات المتوافرة وصولاً للفساد والبيروقراطية، فإن سجلاً طويلاً سينبثق، يضرب بعرض الحائط مبدأ العقد الاجتماعي، ويدفع ثمنه المواطنون. وما السجال هذا سوى عينة بسيطة من السجالات التّي تحدث بصورة يومية في المراكز الرسمية، ومثال يمكن تعميمه إن شئنا على كافة مؤسسات الدولة الهرمة والمفلسة والفاسدة.
تعليقات: