محمد سلمان.. «العروبي العتيق» ومَلك الفرجة اللبنانية

محمد سلمان (16 نوفمبر 1922 - 24 سبتمبر 1997)
محمد سلمان (16 نوفمبر 1922 - 24 سبتمبر 1997)


من كفردونين في بنت جبيل، والباشورة في بيروت، إلى دمشق والقاهرة... الجنوبي الجامح الذي أراد تحويل بيروت إلى هوليوود العرب. «مسبّع الكارات الفنية» ممثل، وملحن، ومطرب، وشاعر، وسيناريست، ومنتج ومخرج. كان يصف نفسه بالفنان الذي جمع الفنون السبعة في شخصه وأنتج نحو 400 فيلم بينها 50 فيلماً لبنانياً. مئة عام مرّت على ولادة محمد سلمان (16 نوفمبر 1922 - 24 سبتمبر 1997) ملك من ملوك الفرجة اللبنانية، والفنان الشعبي الطريف ذي الأسلوب الفوضوي الذي تفرّد به، وصاحب النكتة السياسية التي عبّر عنها في بعض أفلامه.

في أحد تصريحاته الأخيرة التي حملت غصةً في قلبه، قال: «لو كان هناك تقدير للفن في لبنان، لصنعوا تمثالاً لمحمد سلمان الذي استطاع أن ينتشل السينما اللبنانية من البسطة والأشرفية ويحملها إلى العالم العربي كله». لكنّ التعويض أتاه في حياته ومماته من محبة الناس في مصر ودمشق ولبنان والعالم العربي.

أول من غنى اللهجة اللبنانية في مصر، وثاني مطرب لبناني تستقبله «هوليوود الشرق» بعد المطرب والملحن حليم الرومي، بعدما أُعجب بصوته المنتج اللبناني المصري أنطوان خوري، أحد أصحاب شركة «نحاس فيلم». تعاقد معه في لبنان، على أن يتبعه إلى مصر بعد ستة أشهر. أثناء ذلك سمعه الأديب الشهير الشيخ خليل تقي الدين، فأعجب بصوته كذلك، وعرفه بصديقه محي الدين سلام، رئيس قسم الموسيقى والغناء في الإذاعة اللبنانية، الذي تبنّاه فنياً وعرّفه إلى كبار الملحنين.

أولى أغنيات الشاب محمد سلمان كانت «يللي نسيتيني بقلبي كويتيني» (ألحان يوسف فاضل) التي نجحت بشكل كبير، ليبدأ سلمان محمد سعد (اسمه الأصلي) يتردّد حينها على مطربي ذلك الزمن مثل زكية حمدان، لور دكاش، نور الهدى وغيرهم.

كان أول من غنى «الهوارة» الجنوبية في الإذاعة اللبنانية «عالهوارة الهوارة وليش قلبي قادح ناره... والله ان ما حبيتيني رح اضرب راسي بحجارة». فالهوارة هي الكلمة الجنوبية التي أخذها من عامة الناس ونظم عليها الأغنية التي كانت سبب شهرته الواسعة كمطرب، رغم أنّه لم يرغب بداية باقتحام عالم الطرب، فهو الذي درس الشعر واللغة والفنون والتمثيل والإخراج لتمتزج جميعها في بوتقة واحدة وتصب في تكوين شخصيته الفنية. مع وصوله إلى القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، اختارت له عزيزة أمير اسم محمد سلمان بأول أفلامه «الفلوس» (1946). نجح الفيلم وانهالت عليه عقود الأفلام في مصر، فقدم «الخير والشر»، و«لبناني في الجامعة»، و«السعد وعد»، و«قدم الخير»، و«عفريتة إسماعيل ياسين»، و«هدمت بيتي»، و«أم السعد»، و«الكل يغني»، و«العرسان الثلاثة»، و«ليلى في العراق»، و«مجلس الإدارة»...


جبنا العروس وجينا

صوت صارخ وحاد، يتدرج إلى الحنان مع انخفاض الطبقة. في رصيده الكثير من الأغاني التي لقيت رواجاً واسعاً، فبعض أغنياته لا تزال محفورة في الذاكرة العربية. من منا لم يردّد «جينا وجينا وجينا جبنا العروس وجينا» الحاضرة في كل حفلات الزفاف العربية من المحيط إلى الخليج. لكن للأسف يجهل الكثير أنّها لمحمد سلمان صوتاً ولحناً، ويحسبونها من التراث. مسيرة محمد سلمان زاخرة بأسماء عمالقة اللحن والنغم مع أشهر الملحنين في مصر من أمثال محمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمود الشريف، وحسن ابراهيم. كانت معظم هذه الأغاني من خلال الأفلام التي شارك فيها كمطرب وممثل، بالإضافة إلى تلحينه أغنيات عديدة قدمها في أفلامه المصرية منها «قدم الخير» الذي غنى فيه من ألحانه مع شادية «وحشاني عيونك». ومع ليلى مراد غنى دويتو «يا بنت الناس» في فيلم «قلبي دليلي» وأغنية «زينة زينة».

يغيب عن كثيرين بأن محمد سلمان كان أول صوت تعانق حنجرته ألحان الفنان الكبير الراحل فيلمون وهبي (1916- 1985) الذي لحن له عدداً من الأغاني أبرزها «ناطر عالبوابة». كما اشترك مع نصري شمس الدين (1927 - 1983) في اسكتش غنائي هو «انقر يا دف عالطارة» (كلمات عبد الجليل وهبي) من ألحان صديقه عفيف رضوان الذي شكل ثنائياً فنياً معه وأهداه إحدى أشهر أغنياته وهي «يا ست قديش الساعة قوليلي... لو حامل ساعة ما سألتك... وحياتك مش حامل ساعة». كما لحن له «يا بوليس السير» و«يا دلي يا دلي» وغيرهما.


على رأس التظاهرات الشبابية

«عروبي عتيق» قاد العديد من التظاهرات الشبابية. كان من أبرز مناصري التيار القومي العروبي، أسكن حلم الوطن العربي الكبير قلبه لسنوات طوال، وحمل تلك الفكرة في قلمه وشعره وصوته، فسخّر كل إمكاناته لها متغاضياً عن حسابات الربح والخسارة والجماهيرية، فوجد في جمال عبد الناصر الزعيم الذي سيحمل حلم الوطن العربي الأكبر إلى أرض الواقع، وهو الذي كتب و لحّن أغنية «كلنا جمال» التي غنتها سميرة توفيق.

كثيرون أيضاً يجهلون أنّ محمد سلمان شاعر، فهو الذي نظم كلمات أغنية عبد الحليم حافظ التي لحنها الموسيقار بليغ حمدي وأهدوها للشعب اللبناني وهي «طاير طاير طاير على جناح الحمام... جايب تحية تحية وسلام... من كل الأمة العربية.... لوقفة لبنان الأبية». يحفظ التاريخ حادثة طريفة لمحمد سلمان ونجاح سلام مع جمال عبد الناصر: أثناء الوحدة بين مصر وسوريا وقبل أيام قليلة من احتفال «أضواء المدينة» في سوريا، كتب محمد سلمان أغنية «بدي عريس أسمر» (ألحان صديقه عفيف رضوان) وحفظتها بسرعة المطربة نجاح سلام. وقبل صعودها إلى المسرح، خاطب سلمان الرئيس عبد الناصر الذي كان حاضراً في الاحتفال قائلاً: «يا ريّس الوحدة حتطيّر لي مراتي، تصور بدها عريس أسمر شرط يكون من المتحدة، أعمل إيه يا ريّس؟!» فالتهبت الصالة بالتصفيق، واستغرب عبد الناصر كلام سلمان الذي عاد وأدرك مقصده عندما صدح صوت نجاح سلام:


«بدي عريس أسمر عربي شرط، شرط

شرط من المتحدة طلبي شرط، شرط

وبدي خدوده تفاح شامي

وبدي شفايفه فستق حلبي

يا مين يلبي لي طلبي

بدي عريس أسمر عربي

بدي نخلة وادي النيل هالفرحة تغني

معانا بردى يغني يا ليل يا عين

ولبنان يرندح بدي عريس»


إلا أنّ الأبرز في مشواره الفني العروبي كان نشيده أيام حرب السويس «لبيك يا علم العروبة». كما أنشد الكثير من الأغاني الوطنية العروبية مثل «يا فلسطين جينا لك» و«رجعت شمسك يا لبنان تضوي على كل البلدان»، ولطالما أراد إنجاز فيلم عن المقاومة في جنوب لبنان، ولكن العوائق كانت تحول دون إتمام المشروع.

أغنيته الأقرب إلى قلبه التي يعتبر أنه وصل فيها إلى الكمال الفني هي «سوريا يا حبيبتي»، فنجاح الأغنية الواسع وترديدها على ألسنة الصغار والكبار والجنود، لم يفارقه وسيطر عليه مدة طويلة وحاول بشتى الطرق أن يقدّم نشيداً آخر يضاهي نجاحه، لكن بقي «سوريا يا حبيبتي» نشيده الأثير نظماً ولحناً ومشاركة في الغناء ماثلاً أمامه. أثناء تواجده في دمشق لتصوير فيلمه «عروس من سوريا»، حدث يوم العبور العظيم أثناء حرب تشرين، فكتب في لحظتها قصيدة «سوريا يا حبيبتي» وغناها مع نجاح سلام ومحمد جمال.

وللباحث عن سر تغييب محمد سلمان عن الإعلام اللبناني والعربي في مفاصل كثيرة، تتضح الصورة جلية عند مراجعة أغانيه العروبية وخطه السياسي القومي العروبي الذي بقي مستمراً عليه حتى رحيله.


التمثيل

مثّل في حوالى 30 فيلماً، واقفاً أمام نجمات التمثيل والغناء آنذاك مثل بديعة مصابني، صباح، نجاة علي، وشادية، وليلى مراد، وروحية خالد... ومع النجوم ممثلاً أمام زكي رستم، وبشارة واكيم، وفؤاد شفيق، وأنور وجدي، واسماعيل ياسين... أما آخر أفلامه في الحقبة المصرية، فكان «مهرجان الحب» الذي أخرجه حلمي رفلة عام 1958 أمام الفنانة صباح. في 1958، تحوّل إلى الإخراج منجزاً أكثر من ثلاثين فيلماً أولها «موعد مع الأمل»، وآخرها «أنا والعذاب وهواك» (عام 1988 بطولة وليد توفيق)، وبينهما العديد من الأفلام البارزة مثل «أنغام حبي» (بطولة نجاح سلام ووديع الصافي)، و«بدوية في باريس»، و«بدوية في روما» بطولة المطربة سميرة توفيق، و«مرحباً أيها الحب» لنجاح سلام... حلت صباح في المرتبة الأولى برصيد 11 فيلماً، تلتها سميرة توفيق (سبعة). أما نجاح سلام فكانت بطلة ستّة من أفلام محمد سلمان، وتولّى فهد بلان بطولة خمسة أفلام.

بعد عودته من مصر إلى بيروت، وجد سلمان أنّ السينما لا تزال في أول عهدها، فاتفق مع الراحل محمد علي الصباح على تأسيس شركة لإنتاج أفلام مشتركة مع القاهرة. وبدأ توافد النجوم المصريين إلى بيروت التي أصبحت وجهة أساسية لأعمالهم، فأخرج أول أفلامه اللبنانية «اللحن الأول» (بطولة نجاح سلام ووديع الصافي ومحمد شامل وحسن المليجي)، وكان نجاح الفيلم بداية لنجاحات أخرى كثيرة. كان سلمان صاحب «مدرسة إخراجية» أثارت الانتقادات، إذ اعتمد البساطة والتلقائية في كل أعماله، فكان يقول: «استطيع أن أفعل مثل فيدريكو فيلليني لكني أريد أفلاماً يحبها الناس جميعاً وليست حكراً على فئة معينة، فأفلامي أريدها أن تدخل القلوب ولا تحطم رؤوس الناس».


دينامو السينما اللبنانية

«دينامو السينما اللبنانية» الذي قيل عنه بأنه هو الذي أحياها وهو الذي أماتها. كان يغضب من تلك المقولة، قائلاً: «لا استطيع القول بأنني أحييت السينما اللبنانية لأنها كانت موجودة ولكني استطعت إبعاد الفيلم اللبناني عن المحلية ضمن التعاون مع البلاد العربية كلهجة وأبطال، فاعتمدت على جذب نجوم كبار وأدخلت اللهجة اللبنانية إلى الجمهور المصري».

مثّل في حوالى 30 فيلماً، واقفاً أمام نجمات التمثيل والغناء آنذاك مثل بديعة مصابني، صباح، نجاة علي، وشادية، وليلى مراد، وروحية خالد

كان سلمان يفضل دوماً الموهبة الفطرية على الأكاديمية، فاعتمد بفطرته على اكتشاف الجمال في شتى نواحيه، لأن الفنان الأكاديمي عنده يصل متأخراً في اكتشاف مواطن الجمال.

فاليوم بعد 34 عاماً على إخراج آخر أفلامه، يزداد الحديث عن سينما محمد سلمان، وللأسف يتم اختصار مسيرته بالتركيز على الانتقاد اللاذع لمستوى أفلامه. يتناسى الجميع أنه بفضل تلك الأفلام، خطت السينما اللبنانية نحو الجماهيرية العربية وأصبحت تعرض في أقطار العالم العربي وغادرت حيز المحلية الضيق، رغم إقرارنا بأنه بين «السبع كارات» التي حملها سلمان، كان الإخراج الحلقة الأضعف ضمن سلسلته الفنية. وفي المسرح، أخرج مسرحية واحدة من إعداد فارس يواكيم «وصلت للتسعة وتسعين» من بطولة شوشو وفرقته مع عصام رجي، وقد نجحت هذه المسرحية نجاحاً نقدياً وتجارياً في آن.


الزوجة والحبيبة

كان سلمان تلميذاً عند محي الدين سلام والد الفنانة نجاح سلام وهو أحد المساهمين الأوائل في تأسيس الإذاعة اللبنانية وأبرز عازفي العود في زمانه وقد ذكر مراراً أنّ سلام أسهم في تطوير ثقافته الموسيقية. وعن تلك المرحلة تقول نجاح في أحد لقاءاتها: «تعرفت إليه عندما كان يعلمني دروساً خصوصية في اللغتين العربية والفرنسية وكان والدي يحبه كثيراً». تزوج سلمان نجاح سلام مرتين كانت الأولى عام 1955 ووقع الطلاق بينهما مرتين.

كان يعرف عن محمد سلمان بأنه «أبو الفقراء» المتصدق على المساكين والكريم على كل من يصادفه من محتاجين. ويروى بأنه لحظة وفاته كانت أول كلمة نطق بها عمّال فندق «شيراتون القاهرة» الذي كان كثير التردد عليه: «مات أبو الفقراء» لما عرف عنه من طيبة وتسامح حيث كان يسحب من جيبه الأموال من دون أن يعدّها ليعطيها للمحتاج.


تعليقات: