قوارب الهجرة: مئات اللبنانيين محتجزون في تركيا

هناك لبنانيون محتجزون في اليونان منذ نحو 5 أشهر (المدن)
هناك لبنانيون محتجزون في اليونان منذ نحو 5 أشهر (المدن)


شهد شمال لبنان في الأشهر الماضية ذروة غير مسبوقة من موجات اللجوء غير النظامية على متن "قوارب الموت"، وكانت كلفتها باهظة بالأرواح والمفقودين والمحتجزين. وما غرق قاربي طرابلس في نيسان، وطرطوس في أيلول، سوى تكثيف لحجم المأساة. ومع ذلك، لم تتحرك السلطات اللبنانية بوتيرة توازي حجم الكارثة. لا بل تواصل نهج التنصل وإنكار مسؤولياتها، في دولة شملت رحلات الهجرة منها عشرات العناصر العسكرية، وهو ما تتغاضى عنه أيضًا.

وكما تركت السلطات اللبنانية جثامين العشرات غارقة في عمق البحر، لا تتحرك بطبيعة الحال للإسراع في إنقاذ العشرات العالقين أو المحتجزين في تركيا، وتترك آخرين يقبعون في سجون اليونان بأسوأ الظروف الإنسانية، من دون المطالبة باستعادتهم فورًا، بعدما وقعوا ضحية "تجار" مهربين في رحلات بحرية غير آمنة، كانوا يأملون أن ترسو بهم على برّ إيطاليا هربًا من جحيم عيشهم في لبنان.

تحركات وعودة

في الأسابيع الماضي، شهدت طرابلس وعكار تحركات خجولة لبعض الأهالي، يطالبون الدولة بإعادة أبنائهم المحتجزين في تركيا. وهم كانوا على متن قاربين انطلقا تباعًا من شواطئ عكار، ثم تعطلت محركاتهما بعد تسرب المياه إليهما.

وحسب شهادات المهاجرين، فإنهم تمكنوا من الوصول إلى قبالة السواحل اليونانية، ثم منعهم خفر سواحلها من دخول اليونان، ونقلهم عنوة إلى السواحل التركية بعدما طلبوا الإنقاذ من الغرق، وتم إدخالهم إلى الأراضي التركية، فجرى احتجاز اللبنانيين هناك، ونُقل السوريون الهاربون معهم إلى وجهة أخرى.

ويفيد بعض المحتجزين اللبنانيين هناك، منذ ما لا يقل عن نحو شهرين، أن عددهم الإجمالي يقارب 300 مهاجر لبناني. وتتحدث معلومات خاصة بـ"المدن" أن بعض اللبنانيين المهاجرين تمكنوا من الفرار والاختباء عن أعين السلطات التركية، خوفًا من إعادتهم إلى لبنان أو إبقائهم رهن الاحتجاز.

وقبل أيام، عادت دفعة من المحتجزين اللبنانيين، وبلغ عددهم نحو 48 فردًا، بينهم نساء وأطفال، ومعظمهم من بلدة ببنين العكارية.

الأمن العام ووزارة الخارجية

يقول عضو لجنة أهالي اللبنانيين المحتجزين في تركيا، مختار ببنين زاهر كسار في حديث لـ"المدن": "وصلت مساء الثلاثاء الماضي دفعة جديدة من 10 أشخاص، ومن المتوقع بعد يومين أن تصل دفعة أخرى من نحو 16 مهاجرًا، وهم من مجموع ما لا يقل عن 300 لبناني، أبلغت عائلتهم عن احتجازهم في تركيا، وصعوبة التواصل معهم بسبب إلقاء القبض على كامل ما في حوزتهم".

وحسب كسار، فإن عملية إعادتهم تستغرق وقتًا، لأن التنسيق يتم بين السلطات الأمنية التركية والأمن العام اللبناني عبر قنصل لبنان في تركيا وسام بطرس. إذ يجري التدقيق بهوياتهم وملفاتهم، متهمًا وزارة الخارجية اللبنانية بعدم التعامل بجدية مع الملف، وعدم التحرك رسميًا باسم الدولة للمطالبة بإعادتهم أو تسوية أوضاعهم هناك.

ومعظم اللبنانيين الذين أعادتهم السلطات التركية بعد احتجازهم إلى لبنان، كانوا لا يملكون المال لحجز التذاكر، فعادوا تحت شرط استدانة قيمة التذاكر ووجوب تسديدها في حال سفرهم لاحقًا إلى تركيا بطريقة نظامية. علمًا أن السلطات التركية وضعت إشارة منعت دخولهم أراضيها بما لا يقل عن 5 سنوات، وفق كسار. ويضيف: "إن وضع المحتجزين النفسي سيء للغاية خصوصًا بعدما واجهوا الموت مع أطفالهم في عرض البحر، وهناك محتجزون، بينهم قاصرون، في اليونان منذ نحو 5 أشهر، لا تسأل السلطات اللبنانية عنهم".

رواية العائدين

بحرقة وأسى، يروي اللبناني مرعي الحاج من بلدة ببنين بعض فصول تجربة لن يكررها، "لأن كل لحظة فيها مواجهة خطيرة للموت". وهذا الرجل البالغ 45 عامًا، حمل معه أولاده الأربعة، أكبرهم يبلغ 19 عامًا، مع زوجته، على متن قارب انطلق من المنية قبل نحو شهرين، وسدد ثمن الرحلة عن عائلته 15 ألف دولار، بعدما باع سيارته ومقتنياته واستدان باقي المبلغ من معارفه. ويبرر مغامرته بالقول: "أنا عامل مزارع، وصلت إلى مرحلة أصبحت عاجزًا عن شراء طعام أولادي، وكحال أبناء منطقتي لم أجد غير البحر منفذًا للخلاص، وكنا نحلم كل يوم بالوصول إلى إيطاليا بصفة لاجئين".

ويقول الرجل أنهم كانوا على متن سفينة بلغ طولها نحو 25 مترًا، وعلى متنها نحو 100 لبناني، ونحو 200 سوري، معظمهم جاءوا من سوريا، كما أن المهرب، منفّذ الرحلة، سوري الجنسية ملقب بـ"بو علي"، وهو اسم حركي لإخفاء هويته الفعلية، وتمكن من الفرار لدى نقلهم إلى تركيا، وهو سبق أن نفذ عدة رحلات هجرة غير نظامية.

وتجاوز مركبهم المياه الإقليمية اللبنانية بسهولة وأبحر على مدار ثلاثة أيام، قبل أن يتعطل المحرك ويتلف بالبحر، رغم كل محاولات وإصلاحه، فأبلغهم المهرب أنهم عالقون أمام السواحل اليونانية.

يقول مرعي: "لدى وصولنا إلى مشارف اليونان، انفجر المحرك نتيجة ثقل حمولة المركب، وبعد ساعات من الاستغاثة وطلب النجدة حين كنا سنغرق، وصلت باخرة محملة بالنفط أنقذتنا. ثم تفاجأنا بالعلم التركي على مشارف إسطنبول، صرخنا رفضًا لدخول الأراضي التركية وطالبنا بنقلنا إلى إيطاليا. لكنهم لم يستجيبوا لنا، وأدخلونا عنوة إلى انطاليا، وبقينا في العراء تحت مراقبة أمنية على مدار يومين، ثم نقلوا اللبنانيين فقط إلى سجن، فصلوا فيه النساء عن الرجال".

بقي مرعي مع عائلته مسجونًا نحو شهرين، بظروف مأساوية، صحيًا وغذائيًا ونفسيًا وماديًا. ثم تمكن من العودة قبل أيام مع دفعة جرى تسوية أوضاعها. وهكذا، عاد مديونًا للسلطات التركية بألف دولار ثمن التذاكر، لأن السلطات اللبنانية لم تتكفل إعادتهم على نفقتها، ومنعوا دخول أراضيها 5 سنوات، كما عاد مديونًا بآلاف الدولارات، بعدما خسر كل شيء كثمن لرحلة لم تستقر به على البر الأوروبي. ويقول: "أخشى مواجهة الناس الذين لن أتمكن تسديد ديونهم، وأشعر بالانكسار أمام أبنائي الذين عاشوا تجربة صادمة، بينما الآن لست قادرًا على التعويض لهم وتوفير أدنى حاجاتهم".

تعليقات: