الجزء الأكبر من اللبنانيين تحوّلوا من التدفئة على المازوت إلى التدفئة على الحطب، وعلى الرغم من كون الحطب يؤمّن تدفئةً جيدة بكلفةٍ أقل، لكن الحصول على كمية كافية لتحصين البيوت طوال شهور الشتاء، ليس أمراً يسيراً.
يتأمّل قاسم إحدى شجراته المفضّلة. مرّت سنوات ولم تحمل ثمار "المشمش العجمي" كما يجب. نذرت الشجرة نفسها للحظةٍ كهذه، يحمل قاسم فأسه ويتوجّه نحوها بخطى متثاقلة، يُعاند جذعُها الفأس ولا يستسلم سريعاً، لكنّ الجولة تنتهي لمصلحة الفأس. شجرة "المشمش العجمي" هذه ليست أولى ضحاياه.
منذ شتاء العام المنصرم، وطّن أهالي القرى اللبنانية أنفسهم لفكرة أنّ ما قبل الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان ليس كما بعدها. لا تدفئة "عالمازوت" بعد اليوم. أيقن أهالي القرى هذه الحقيقة جيداً، وسريعاً بحثوا عن البديل، وكان البديل الأفضل: الحطب.
يؤكد أحمد، أحد العاملين في بيع الحطب في إحدى قرى قضاء بعلبك - الهرمل، أن الطلب على الحطب قد ارتفع بشكلٍ ملحوظ هذا العام، فهو حتى بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر قد باع ما يقرب من 100 طن من الحطب على صعيد قرية واحدة، أي ما يساوي ضعف ما باعه في مثل هذا الوقت من العام المنصرم.
وعلى الرغم من كون الحطب يؤمّن تدفئةً جيدة بكلفةٍ أقل، لكن الحصول على كمية كافية لتحصين البيوت طوال شهور الشتاء، ليس أمراً يسيراً إلى حد اعتباره بديلاً يضمن الدفء للجميع. فمتوسط سعر الطن الواحد من الحطب لا يقل عن 140$ وقد يصل إلى 220$، وإذ يُباع بالمتر المكعب، يتراوح سعر المتر منه بين 80 دولاراً و130 دولاراً.
قاسم صبرا، عسكري متقاعد وصاحب مهنة حرة، لجأ إلى الأشجار المحيطة بمنزله. أمّنت له حديقة منزله في قرية تمنين التحتا (قضاء بعلبك - الهرمل) طناً ونصف الطن من الحطب. حسمَ قراره النهائي: لا مازوت هذا العام، وحين ينفد مخزونه من الحطب سيشتري مقدار حاجته منه، فوفق حساباته "بضلّ الحطب أوفر".
تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في تمنين التي ترتفع 1000 متر عن سطح البحر. لا يمكن المكوث في إحدى غرف المنزل بلا تدفئة. المدفأة هنا ليست خياراً أو "ديكوراً" يضفي أجواءً شتوية. يُشعِلُ قاسم المدفأة منذ الصباح الباكر حتى آخر ساعات الليل بلا انقطاع. كل شتاء، كان يتعيّن على قاسم تأمين خمسة إلى ستة براميل من المازوت.
هذه البراميل الخمسة لا يقلّ سعرها حالياً عن 1000 دولار أميركي، فقد سجّل متوسّط سعر برميل المازوت في النصف الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 215 دولاراً.
لا يستغرب حسن، صاحب محطة عرار في تمنين التحتا، الإقبال الضعيف على شراء المازوت، فمعظم سكان القرية من أصحاب الدخل المحدود. لم تحقّق المحطة نصف حجم مبيعات العام المنصرم. "مُتوَقّع" يقول حسن، بينما يغلق بإحكام "غالون" مازوت اشتراه رجلٌ خمسيني.
أحد المشاهد التي تشي بأن ما قبل الأزمة ليس كما بعدها هو مشهد شراء المازوت "بالغالون" و"القنينة". يهزّ حسن رأسه وتتحرّك حدقتا عينيه وهو يحاول أن يتذكّر متى بدأ الناس بالتحديد يقصدون المحطة لتعبئة غالون مازوت. "من نص الشتوية الماضية بلشت شوف هالمشهد. بس السنة أكتر بكتير"، يقول حسن.
تراجع الإقبال على شراء المازوت
ارتفع الطلب على الحطب في قرى الجنوب أيضاً، وسجّلت المبيعات أرقاماً أعلى بكثير من أرقام الأعوام السابقة. "حتى المؤسسات عم تطلب حطب"، وفق علي أيوب (يعمل في بيع الحطب منذ سنوات)، ويشير إلى أن الطلب قد بدأ مبكراً هذا العام، منذ بداية الصيف تقريباً.
بالأرقام، يبدو منطقياً لجوء الناس إلى الحطب كخيارٍ بديل، فالبيت الذي يحتاج إلى أربعة براميل مازوت خلال فصل الشتاء، سيحتاج إلى ثلاثة أطنان من الحطب تقريباً، أي ما كلفته على أعلى تقدير 600 دولار، وهو رقم ما يزال أقل من تكلفة أربعة براميل مازوت (لا تقل كلفتها عن 800 دولار أميركي).
"عالعمياني"، وبدون مراجعةٍ للأرقام، يؤكد الشيخ حسان جنبلاط، صاحب محطة "الأنوار" في حاصبيا، تراجع الإقبال على شراء المازوت في المنطقة. "من كان يشتري خمس براميل مازوت اشترى هذه السنة برميلاً واحداً"، يقول جنبلاط، ويرى أنه بالإضافة إلى انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، فإن عدم إمكانية "التقسيط" ساهم في تراجع الطلب على المازوت، فأصحاب المحطات بات لزاماً عليهم الدفع "كاش" بمجرد الاستلام، "مندفع ومنحمّل، مش منحمّل ومندفع"، يقول صاحب "الأنوار".
ضيّقت الأزمة الاقتصادية الخناق على اللبنانيين، وكأخطبوط امتدّت أذرعها إلى جوانب حياتهم كافة، من دون أن تترك لهم منفذاً واحداً.
"إذا بتدوري عكار كلها رح تلاقي نفس الوضع"، يؤكد رفعت قاسم، أحد سكان بلدة قنية قضاء عكّار، (وهي إحدى بلدات جبل أكروم السبع). أسرة رأفت واحدة من الأسر التي هَجَرت المازوت ولجأت إلى الحطب.
واثقاً بوحدة الحال التي تجمع الجزء الأكبر من أهالي عكار، يحكي رفعت بلسانهم جميعاً، ويوصّف الواقع بأسفٍ خالٍ من الدهشة، فعكّار اعتادت أن تكون لها حصّة الأسد في كل أزمة، وتراكم الأزمات مع تتالي الأعوام من دون حلّ، جعل منها أشد محافظات لبنان فقراً وبؤساً.
يؤكّد رفعت أن غالبية سكان قريته كانت أمام خيارٍ واحد: "كل مين عنده أرض نزل عليها وبلّش من أول الخريف يجمّع حطباته للشتا". لا قدرة للأهالي على شراء الحطب هنا. ستة ملايين ليرة لبنانية سعر الطن الواحد من الحطب، "مين هو الي قادر يشتريه هون؟" يسأل رفعت ولا ينتظر جواباً، ثم يضيف: "وعندك كلفة نقله". لا يُكثر الكلام، بات يُدرك أن لا جدوى من كثرته. يقول باختصار إن نصف رجال قريته هم عسكريون متقاعدون.
يصمت حين يشعر أنه حكى كل ما يُحكى، ثمّ يهتف فجأة: "والصوبا، نسيتوا الصوبا؟ أقل وحدة حقها مية دولار".
بطبيعة الحال، يحتاج كل من تحوّل للتدفئة على الحطب إلى مدفأة (صوبيا) جديدة.
مئة دولار هو سعر مدفأة الحطب "مع فرن"، بينما تُباع أرخص صوبيا "بدون فرن" بأربعين دولاراً تقريباً، بحسب ريدان محمود، مدير عام مؤسسة "جمال الدين أبو إبراهيم"، أكبر مصانع التدفئة في لبنان.
ارتفاع الطلب على الحطب
يجزم محمود أن الجزء الأكبر من اللبنانيين تحوّلوا من التدفئة على المازوت إلى التدفئة على الحطب، مشيراً إلى أن 80% من مبيعات المؤسسة التي توزّع للمناطق اللبنانية كافة هي مدافئ الحطب، وقد تضاعف الطلب عليها هذا العام إلى الحد الذي باتت المؤسسة غير قادرة على تلبية طلبات كل زبائنها.
بحسرة، يحكي مازن، أحد الشبان الناشطين في قرية نحلة، قضاء بعلبك - الهرمل، كيف لجأ سكان القرية بمعظمهم إلى التضحية بأشجارهم "حتى لو كانت بتعطي رزق"، في سبيل تأمين وسيلة للتدفئة. يلخّص المشهد في نحلة قائلاً: "أغلب الناس لجأت لبساتينها، واللي معه اشترى حطب مُشترى. وبيبقى العوائل الي مش قدرتها لا هيدي ولا هيدي، ناطرين يوصلهم دعم من جهات بتأمّن مساعدات".
في نحلة، تتجمّد المياه في الأنابيب لأيام أثناء فصل الشتاء، يملأ أهالي القرية بعض الأواني ثلجاً، ليذيبوهُ فوق "الصوبيا" ويحوّلوه إلى مياهٍ للاستخدام.
للشتاء طقوس خاصة في القرى التي يجتاحها الصقيع، ويبدو أن الأزمة ومستجداتها ستفرض طقوساً إضافيةً هذا العام.
على مبدأ "العين بصيرة والإيد قصيرة"، يُجمع عدد من رؤساء البلديات في مختلف المحافظات على أنّ تأمين وسائل التدفئة هذا العام يشكّل تحدياً كبيراً وأزمة حقيقية، لكنّ البلديات لا قدرة لها على المساعدة إلا "بالقليل اليسير"، فموازنات البلديات بالكاد تكفي لإتمام مسؤولياتها. وبالنسبة إلى المساعدات، فغالباً ما تأتي "من الناس للناس"، أي أن بعض المتموّلين من الأهالي يساهمون في تأمين مساعداتٍ للأسر الفقيرة. الجهات الأخرى التي قد تؤمن دعماً هي الجهات الحزبية أو الجمعيات.
كان عمر شجرة "المشمش العجمي" قبل أن تتهاوى تحت ضربات فأس قاسم عشرين عاماً. تحوّلت الشجرة العجوز إلى "حطبات" ميتة يرتّبها قاسم وهو شارد الذهن.
ما قبل الأزمة الاقتصادية ليس كما بعدها، أدرك أهالي القرى هذا جيداً، واستعدوا للشتاء بحُزَمٍ مرصوصة من الحطب. ودّعوا أشجاراً قد لا يتمكّن حتى أحفادهم من رؤيتها تنمو مجدداً، لكنّ أحفادهم سيسمعون يوماً ما، كيف نجا أجدادهم من أشرس أزمةٍ اقتصادية في تاريخ البلاد.
تعليقات: