فيروز بريشة بطرس المعري
في ذكرى ميران نحّاس،
الذي كان يحبّ فيروز
في عيد فيروز، تحضرنا الحكايات من غير استئذان، تلك التي تنبثق من أغاني هذه السيّدة اللامعة، فتضفي على الأشياء معاني كأنّها ليست من هذا العالم. حكاية أغاني فيروز مع الحكاية آن لها أن تروى بالتفصيل. قيل الكثير عن أنّ الأغاني في الشرق العربيّ قبل الأخوين رحبانيّ كانت نوعاً من الكلام المرسَل موضوعه التعبير عن اللوعة والشجن. هذا لا يُستنتج منه طبعاً أنّه لم تكن هناك استثناءات سواء في مصر أو في بلاد الشام. لكنّ الأخوين رحبانيّ جعلا من الحكاية في الأغنية الفيروزيّة قضيّة القضايا، ورفعاها إلى مصافّ النوع الأدبيّ الذي يشكّل قوام هذه الأغنية، بحيث يصبح السرد هو المكان الذي تنبسط فيه الحركة الدراميّة وتتفجّر الأحاسيس من دون أن تلهينا كثافتها عن غنج الحكاية. هذه النقلة الرحبانيّة-الفيروزيّة كانت، في سياقها المكانيّ والزمانيّ، غايةً في الجدّة. وهي، حتّى اليوم، لا تزال تبحث عمّا يضارعها أو ينافسها في الإنتاج الشعريّ-الموسيقيّ، تبحث ولا تجد.
ثمّة أغان فيروزيّة هي عبارة عن حكاية، أو قصّة قصيرة، بقالب شعريّ، وذلك من أوّل كلمة فيها إلى آخر كلمة. لعلّ رائعة فيروز «شادي» هي التعبير الأدقّ والأعمق عن هذا النوع الغنائيّ الذي لم يكن مألوفاُ في الشرق قبل فيروز. هنا، يتراجع النمط الغنائيّ التقليديّ الذي يتألّف من مذهب وكوبليهات كي تحلّ محلّه حكاية قصيرة مترابطة غالباً ما تصل إلى ذروتها في لقطة شعريّة لافتة: «وأنا صرت إكبر/وشادي بعدو زغيّر/ عم يلعب عالتلج»، وهي، هنا، ربّما تكون ضرباً من تورية تحيلنا على موت شادي. الأغنية- الحكاية تطالعنا أيضاً في «حبيبي بدّو القمر»، التي تتّصف بتصعيد دراميّ نادر: «خايفة لنام/ وينزل القمر/ويلاقيني غافية/وتسرقو جارتنا/يلّي مزاعلتنا/وتعطيه لحبيبي/ويحبّا حبيبي/وأنا صير غريبة». والجدير بالذكر أنّ كلا الحكايتين الشعريّتين تفضيان إلى نوع من سؤال معلّق يختلط بالحرقة كأنّه استعادة لأسطورة إغريقيّة قديمة، وذلك بخلاف كثير من القصص الشعبيّ الذي يُختتم على نهاية سعيدة.
لئن كانت الأغنية-الحكاية حاضرةً بقوّة في التراث الرحبانيّ-الفيروزيّ، إلّا أنّ ما يبدو مهيمناً على هذا التراث هو الأغنية التي تتألّف من حكايات عدّة، أي التي يشكّل كلّ مقطع فيها، أو ما يعرف بالكوبليه، حكايةً قصيرةً قائمةً في ذاتها لا يتعدّى مداها، في غالبيّة الأحيان، الأبيات الشعريّة الأربعة: «دوّاره عاللي قاصد يقطف حبق/وبأيّام الحصايد قلبو احترق/قالتلي شفتك قاعد تكتب ورق/قلتلّا هالقصايد كلّن لكِ». من أين يأتي هذا الميل إلى التكثيف؟ لا شكّ في أنّ الاهتمام بالحكاية ينبع من ذائقة الأخوين رحبانيّ الأدبيّة. غير أنّ قدرتهما على تضمين المقطع الشعريّ الواحد حكايةً تبلغ أوجها في البيت الأخير لعلّ مردّه هو الزجل في بلادنا، الذي يعرف ظاهرة المقطع الشعريّ الرباعيّ الأبيات (المعنّى والقصيد والعتابا) الذي يجب أن يبلغ ذروةً معنويّةً وعاطفيّةً في البيت الأخير، وذلك قبل تسليم السلسلة الشعريّة إلى قوّال آخر. ولنا من التراث الزجليّ الرحبانيّ مثال لافت على هذا: «كانوا زغار وعمرهن بعدو طري/ولا مِن عرف بيحبّن ولا مِن دري/يقلّا بجيب الريح تتلعب معك/وبكتب عيونك عالشتي تتكبري».
إذا كان هذا الحدس صحيحاً، فإنّ الأغنية الفيروزيّة تشكّل تعبيراً صارخاً عن تطويع الزجل لمقتضيات الحكاية القصيرة، وما تستدعيه هذه من رشاقة السرد والتصعيد الدراميّ حتّى بلوغ الذروة، فضلاً عن جعل الزجل والحكاية معاً في خدمة ضرب من ضروب التأليف والتلحين حرّر الأغنية العربيّة من نمطيّتها وإمعانها في دوران الموضوع الشعريّ حول ذاته: «وطلعت العروسة تنقّي تين/ضحكلا الناطور وقلبو حزين/ولوّحت بعيونو لفتة ملياني عتب/ضاع بهالبراري وانبحّ صوت القصب».
من النافل القول إنّ تنفيذ ما تتطلّبه هذه الرؤية الشعريّة-الغنائيّة الجديدة كان لا بدّ له من أن يستنجد بمروحة واسعة من الآليّات البيانيّة والبديعيّة التي لا مجال للتعريج عليها هنا (راجع: الاستعارة في شعر الأخوين رحبانيّ العامّيّ، المدن ٢٠٢٠/١٢/٦). لكنّ ما يلفت في التراث الرحبانيّ-الفيروزيّ هو لجوؤه شبه المستديم إلى التكرار، ما يستتبع خلق حركة إيقاعيّة داخليّة تصاحب الإيقاع الخارجيّ الناشئ من الوزن الشعريّ ولا تتعارض وإيّاه، لكنّها تبقى مختلفةً عنه ولا تتماهى به، كما في البيت الأخير من الكوبليه الثاني من «علّموني»: «يا عصفور الشوق أهلك داروا/بهالسما وما بعرف وين صاروا/دلّوني عدرب الحبّ وطاروا/وعلى درب الصبر ما دلّوني». ويصل التكرار إلى واحدة من أرفع ذراه حين يكون التوظيف المعنويّ مختلفاً:
«فايق لمّا راحوا/أهالينا مشوار/تركونا وراحوا/قالوا ولاد زغار/ودارت فينا الدار/ونحنا ولاد زغار/والهوى جمّعنا وفرّقنا الهوى». «قالوا ولاد زغار» تعبير عن ثقة الأهل بعدم حصول شيء بين قطبي النحن الشعريّة. هذه الثقة تتلوها التورية الجميلة التي تشير إلى واقعة الحبّ: «ودارت فينا الدار». ومن بعدها يأتي التكرار «ونحنا ولاد زغار»، الذي لا يحيلنا هنا على ثقة الأهل، الأمر الذي تخطّته الحركة السرديّة الدراميّة، بل على عدم استيعاب قطبي النحن الشعريّة لما اختبراه معاُ من كثافة العشق وجنونه.
في عيد فيروز، تحضرنا الحكايات من دون استئذان كي تقول لنا، بكلمات محمود درويش، إنّ «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة». كلّ عام والسيّدة اللامعة بألف خير…
تعليقات: