موازنة 2022 شكلت استياءً عارمًا في أوساط القضاة (مصطفى جمال الدين)
بعد دخول لبنان مرحلة "الوقت الضائع" من بوابة الشغور الرئاسي، أصبحت كل القضايا والملفات الإشكالية مؤجلة إلى العام المقبل، ومن أبرزها اعتكاف القضاة الذي يدخل شهره الرابع، في سابقة لم يشهدها تاريخ السلك القضائي في لبنان.
"الوضع عبثي وينحدر من سيء إلى أسوأ، والحلول معدومة لإعادة انتظام العمل، ويبدو أننا ذاهبون إلى مرحلة أشد خطورة في قصور العدل". هكذا يعلق مرجع قضائي لـ"المدن" لدى سؤاله عن مصير الاعتكاف، الذي ينفذه نحو ثلثي قضاة لبنان من أصل نحو 570 قاضيًا. بينما لجأ البعض إلى خيار العمل ولو بالحد الأدنى في قصور العدل لتسيير بعض الملفات التي تحمل طابع العجلة، وعلى رأسها محاكمات الموقوفين. وذلك على قاعدة: "لم يعد الإضراب الحل الأمثل لتحقيق مطالبنا، بل أصبح يؤدي إلى انقلاب الرأي العام ضدنا".
استقالات وإجازات مفتوحة
لكن حالة اليأس الشديد التي تخيم على معظم قضاة لبنان، كانت إحدى نتائجها في 2022، استقالة ما لا يقل عن 5 قضاة في الأشهر الأخيرة، بينما أخذ أكثر من 20 قاضيًا إجازات مفتوحة بلا راتب، وفق ما يكشف مصدر قضائي مطلع لـ"المدن". ويرجح تصاعد هذه الموجة بصفوف القضاة في الأشهر القليلة المقبلة، إذ بات خيارا الاستقالة والإجازة المفتوحة بلا راتب، يتردد في نقاشاتهم وفي أذهان كثيرين، بعدما استنتجوا أن هدف الإضراب لن يؤتي نتائجه المرجوة لهم.
في هذا الوقت، تتصاعد أصوات كثيرة مناهضة لهذا الاعتكاف، ويذهب البعض لاعتبار أن القعر الذي بلغه الجسم القضائي، كان معظم القضاة أحد أبرز مسبباته، هو نتيجة ارتباطهم الوثيق بالمنظومة السياسية وتشابك مصالحهم معها. وهو ما عزز منذ عقود تبعيته للسلطة السياسية على حساب الاستقلالية التي يطالب القضاة راهنًا بتحقيقها. لذا، يسعى "نادي القضاة" من خلال مواقفه التي يطلقها مؤخرًا، الى الردّ على بعض الاتهامات التي ترافق اعتكاف القضاة. وفي آخر مواقفه التي أجاب فيها على سؤال "هل صحيح أن السلطة القضائية مسؤولة عن الوضع المأساوي الذي وصل إليه لبنان؟". توجه النادي إلِى السلطتين التنفيذية والتشريعية قائلًا: "إنهما تسعيان دومًا إلى تقويض السلطة القضائية لجعلها أداةً طيعة بيدهما تتحكمان بها كما تشاءان.. وأن معظم المراكز الأساسية في القضاء، سواء بالعدلي أم بالمالي أم بالإداري معيّنة بقرار سياسي، والتعيين يحصل في أكثر الحالات بحسب الولاء الطائفي او السياسي، ناهيك عن الرأي الراجح للسياسي في التشكيلات القضائية تحت طائلة عدم توقيع مراسيمها".
وذكّر النادي أن قانون استقلالية القضاء لا يزال يترنّح بين سلطة ولجنة ووزارة وأهواء مسيّريه و"خوفنا أن يولد القانون مسخًا لا استقلالية فيه إلا عنوانه".
غضب من الموازنة؟
في هذه الأثناء، من الواضح أن وزارة العدل إضافة إلى مجلس القضاء الأعلى، غير قادرين على اجتراح أي حلول تفك اعتكاف القضاة، الذي أدخل قصور العدل اللبنانية والمحاكم والسجون بمرحلة شديدة الخطورة من الشلل والتعطيل. وتؤكد المعلومات أن الاعتكاف مستمر لأجل غير مسمى، إن لم يحصل القضاة على حلول جذرية لجهة تصحيح شامل لرواتبهم وأن تكون مقرونة بقيمتها الفعلية بالدولار الحقيقي في السوق السوداء.
وما يُصعد موقف القضاة المعتكفين راهنًا، هو رفضهم الرضوخ إلى سياسة "السِلف"، ويسميها البعض بالمسكنات المؤقتة وغير الفعالة.
وقبل نحو شهرين، جرى تحويل سلفة خزينة إلى صندوق التعاضد بقيمة 35 مليار ليرة، حصل فيها كل قاض حينها، وعلى دفعتين، على قيمة معدلها 25 مليون ليرة إضافة إلى المنحة الأساسية (استشفائية وتعليمية) بمعدل 3 ملايين ليرة. وجرى الاتفاق مع المصارف لتحويلها وفق سعر منصة صيرفة وتقاضيها بالدولار الأميركي، فتراوحت بين 600 و100 دولار، وكلٌ حسب درجته. في حين، ما زالوا يتقاضون رواتبهم الأصلية حتى الآن بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف 1500 ليرة، كما تشير المعلومات أنهم لم يتقاضوا بدل النقل منذ شباط الفائت.
وتفيد معطيات "المدن" أن ثمة مساعٍ لتأمين سلفة خزينة جديدة لصندوق التعاضد، لكنها ستكون أقل من الأولى، أي لن تكفي توفير مساعدات لشهرين.
ويقول مرجع قضائي لـ"المدن" إن موازنة 2022 أثارت استياءً عارمًا في أوساط القضاة، خصوصًا أن ترصد في ميزانيتها 0.49% فقط لوزارة العدل ومعها مختلف مرافق السلك القضائي ورواتب القضاة، وخصصت لصندوق التعاضد 10 مليار ليرة فقط. في حين، أن صندوق تعاضد النواب وحدهم تتجاوز مخصصاته 75 مليار ليرة ناهيك عن تقديمات أخرى. ويعبر القضاة عن استياء كبير من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي لا يتجاوب مع مطالب وزير العدل هنري الخوري، كذلك من أعضاء مجلس النواب الذين لا يدفعون لتشكيل أي قوة ضغط تشريعية لصالح القضاة معنويًا واستقلاليًا وماديًا.
ويحذر المرجع من تصاعد ظاهرة هجرة القضاة، ويقول إن فك الاعتكاف، رغم استبعاد تحققه بالأشهر المقبلة في ظل تجاهل السلطتين التشريعية والتنفيذية لمطالب السلطة القضائية، لن يؤدي إلى انتظام العمل بمرافق العدالة المشلولة، كما لن يحدّ من موجة الاستقالات والإجازات المفتوحة. وهو ما يضع عمليًا الجسم القضائي أمام سؤال يتمحور حول ضمان وجوده واستمراريته.
تعليقات: