البعض يعمد لبيع دمائه بالمفرق وبأسعار تنافسية
لا شيء يعلو فوق التعاسة العمومية في لبنان. حتّى السخط والنزق اللذين يسيطران على الناس برحا من العادات العبثية القديمة. أما الاحتقان فهو محرك الشعب اليومي، الاحتقان من العمل المضني، الاحتقان من الدولار المتأرجح، الاحتقان من الموت البطيء والموت المجاني، أما إن بلغ الاحتقان ذروته، فيصل حدّ العنف المميت والهمجي. مئات، بل آلاف من المواطنين قتلوا في آخر ثلاث سنوات، صعبٌ إحصاؤهم، والأصعب معرفة مسوغات ودوافع قتلهم أكان على يدّ سلطتهم أم بين بعضهم البعض، لكن الأمر الوحيد والمسلم به هو الهدر الموصول للأرواح والدماء.
وفي بلد السوريالية والانهيار الدراماتيكي، بات الأسهل على المواطن أن يُقتل أو أن تسفك دماؤه مجانًا، على أن يعيش معاناة إيجاد وحدة دم أو بلازما عند احتياجها. فكما بات كل شيء مسلعًا ومتاجرًا به وفاسدًا، أضحت وحدات الدم وما يشابهها من وحدات البلازما، تجارة مربحة لأصحاب المستشفيات والمختبرات الخاصة، وسلعة صعبة المنال على المرضى وذويهم، بالرغم من كون غالبية هذه الدماء المخزنة هي من التبرعات. وبين الاحتكار والفوضى الاستشفائية وسوق الأعضاء والدم، المنفلتة على غاربها، يدفع المواطن اليوم فاتورة الطبابة بصحته وما تبقى من ماله.
احتكار وحدات الدم
تتباين أسعار أكياس الدم من مستشفى إلى آخر، ومن بنك لآخر، غير أنها وحسب شهادات حية من مواطنين ومرضى وموظفين في عدّة مستشفيات قامت "المدن" بالتواصل معهم، تتراوح بين 50 و150 دولاراً أميركياً للكيس الواحد. وفي الغالب تتساوى في ذلك جميع الفصائل من دون أفضلية لفصيلة على أخرى، وإن كانت بعض الفصائل النادرة سعرها أغلى بنسبة كبيرة تتراوح بين 150 و200 دولار أميركي. وفي أوقات الطوارئ وفي الساعات المتأخرة من الليل تتضاعف التسعيرة طبعًا.
أما في المستشفيات الحكومية، فيشير أحد الموظفين أنها تُباع بحوالى المليون ونصف المليون ليرة لبنانية، هذا إذا توافرت. إذ غالبًا ما تُفقد وحدات الدم من الفئات النادرة، ويضطر المرضى وذويهم للتفتيش عنها في المستشفيات الخاصة التّي تحتكرها، حسب ما أشار الموظف لـ"المدن".. بالرغم من كون هذه الأكياس أو الوحدات هي تبرعات المواطنين والتّي يقدمونها في عدد من المناسبات، وهذه الدماء تخضع لفحوص طبية، ويتم توضيبها وتجميدها داخل أكياس طبية تتروح تكلفتها بين 5 و10 دولارات أميركية كحدٍّ أقصى.
تواصلت "المدن" مع عدد من الموظفين الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم، وأكدوا أن معظم المستشفيات تزعم أن تكلفة التوضيب والفحص والأكياس مرتفعة، وبالتالي يرتفع سعر وحدة الدم. وهذا بمجمله لتبرير متاجرتهم بهذه الوحدات لغاية ربحية بحتة، فالفحوص تكلف بالمتوسط حوالى 10 دولارات بمختبرات المشفى، أما الأكياس فتشتريها المستشفيات بالجملة طبعًا، وتبيعها بأضعاف سعرها الحقيقي. هذا فيما أجمعوا على ضرورة إجراء هذه الفحوص لعينات الدم المتبرع بها، للتأكّد من صلاحيتها. وتشمل هذه الفحوص نقص المناعة البشرية والتهاب الكبد الوبائي والزهري..
المستشفيات والصليب الأحمر
"زوجتي خضعت لعملية جراحية في أحد المستشفيات الحكومية الشهر الماضي، واحتاجت لوحدات دم من فئة ب+ ولم تكن هذه الفئة متوافرة في هذا المشفى. أطلقت عائلتي حملة عبر وسائل التواصل لتأمين الوحدات، وعندما لم تفلح محاولاتنا قصدت عدّة مستشفيات، منها الرسول الأعظم والسان جورج، لسؤالهم عن الوحدة، فاشترطوا عليّ شراءها بين الخمسين والسبعين دولاراً بحجة أنها مفقودة، وعندما سألتهم إن كان تأميني الصحي أو الضمان الاجتماعي الخاص بزوجتي التّي تعمل في القطاع العام، يمنح تغطية التكلفة التّي تصل لمئة وخمسين دولاراً أميركياً لشراء ثلاث وحدات، أي ما يعادل مرتبي الشهري تقريبًا، فكان الجواب بالنفي، وأصروا على دفع التكلفة بالدولار الفريش". هكذا وصف ح.ط. (موظف في القطاع الخاص) معاناته في إيجاد وحدات دم لزوجته. هذا المعاناة نفسها التّي يعيشها عشرات المواطنين يوميًا.
"مطلوب وحدة دم من فئة..." عشرات المنشورات المشابهة تنبثق بصورة دورية على وسائل التواصل الاجتماعي، تحتوي مناشدات لتأمين وحدات دم، ويتهافت المحتاجون لها من المرضى وعائلاتهم لشرائها وتأمينها من المستشفيات التّي تحتكرها في غالب الأحيان، خصوصاً منها الفئات النادرة من السالب. حاولت "المدن" التواصل مع إدارة عدد من المستشفيات، كمستشفى الزهراء الجامعي والسان جورج والرسول الأعظم، ولم تصل لنتيجة واضحة. لذلك علمت من عدّة مصادر في هذه المستشفيات أن وحدات الدم تُباع في كل منها بخمسين دولاراً أميركياً. كما تبين أن غالبية المستشفيات الخاصة في بيروت تبيعها بمتوسط هذا المبلغ.
وعلى صعيد آخر، يؤمن الصليب الأحمر عادةً وحدات الدم بصورة مجانية، وذلك بتكليف من وزارة الصحة، بسبب عدم تواجد بنك رسمي ترعاه الوزارة، والتّي تكتفي فقط بإطلاق حملات لحث المواطنين على التبرع، إلا أن الصليب الأحمر يعاني صعوبة في تغطية الاحتياج العام لهذه الوحدات، وخصوصاً من فئة السالب، حسب ما أشار أحد المتطوعين فيه، لانعدام ثقافة التبرع عند غالبية اللبنانيين الذين يتخوفون من نقل الأمراض وغيرها، مشيرًا إلى أن الصليب الأحمر يقوم بواجبه على قدر المستطاع. وذكر بضرورة إقامة بنك دم رسمي لتأمين الوحدات لمختلف الفصائل بصورة مجانية وسريعة.
تجارة البلازما
مع انتشار كوفيد – 19، ظهرت تقنية علاج المصابين والحالات الحرجة للذين يعانون من التهابات رئوية حادّة، تُسمى تقنية "بلازما النقاهة"، إلا أن المشكلة الأكبر التّي واجهت المستشفيات والمرضى هي أن هذه التقنية مكلفة جداً، أولاً من جهة المجهود الذي يتعيّن على أهل المريض بذله لإيجاد متبرّعين، أو لناحية تسعيرة وحدة البلازما، التي تختلف بين بنوك الدم التابعة للمستشفيات التي تتولى علاج مرضى كورونا.
آنفًا وقبل الأزمة، كان سهلاً إلى حدٍ ما تأمين وحدات دم أو شراؤها، بالرغم من أنها كانت تتجاوز المئة وعشرين دولارًا في غالبية المستشفيات، وكان من المعروف صعوبة تأمين أو شراء وحدات البلازما أو الصفائح، والتّي كان يتراوح سعرها بين 500 و700 ألف ليرة لبنانية، أي ما يقارب 500 دولار أميركي. واليوم بات سعرها في عدّة مستشفيات يتجاوز الأربعمئة دولار أميركي.
سوق سوداء!
على صعيد آخر، واقع الفوضى وارتفاع الفاتورة الاستشفائية الجنوني الذي جعل الطبابة والاستشفاء حكرًا على النخب المتمولة والطبقات الميسورة، فرض سوقًا سوداء جديدة للتجارة بالدم! إذ أن البعض يعمد لبيع دمائه بالمفرق أي بأسعار تنافسية تقل عن أسعار وحدات الدم والبلازما في المستشفيات، وفي حين لا يقل الأمر خطورةً عن كونه أزمة صحية بامتياز، تتقاعس السلطات المعنية وعلى رأسها وزارة الصحة بالإتيان بحلول جذرية، أو ضبط المخالفين وتقييد هذا التسيب والاستهتار بصحة المواطنين وأرواحهم. وفي حين باتت الحاجة لبنك دم رسمي ملّحة، فإن الحاجة الأكبر اليوم هي وضع أطر وتخطيط وحلول لأزمة الاستشفاء والطبابة الحالية، والتّي أطاحت بمفاهيم العدالة الاجتماعية.
تعليقات: