الغرام الواحد من الزعفران يُباع في لبنان بين 10 و15 دولاراً (المدن)
الالتفاتة الجدية هي غالبًا جلّ ما يتمناه سكان بعلبك- الهرمل من دولتهم، أن تراهم وتسمعهم، ولربما قد تلحظ خصائص منطقتهم وما تختزنه من منفعة لها ولهم، فتستغلها. لا يطالب أهالي بعلبك-الهرمل بجامعات أو دور سينما أو حتّى حديقة عامة بعد الآن. بل يطالبون باستغلال أراضيهم الزراعية الخصبة والمهملة، للاستفادة من محاصيلها التّي تنعشهم وتنعش منطقتهم والدورة الاقتصادية المتعثرة.
وبين المناشدات والتمنيات، قليلةٌ هي المرات التّي ينبثق فيها بصيص أمل فعليّ لأهالي المنطقة المنكوبة، المتخبطين في اجتراح الحلول البديلة في ظلّ غياب الخطط التنموية. كمثل هذه المرة، التّي قرر فيها المهندسان المعماريان جهاد فرح وكارل كرم، مطلع عام 2020 إقامة مشروع لزراعة الزعفران اللبناني عالي الجودة في قرية حزين البعلبكية. وإن كان يبدو غريبًا أن تسمع بإقامة مشروع في لبنان بلحظة انهياره الدراماتيكي، فإن الأغرب أن تسمع بمشروع لمنتج عالي الجودة و"فاخر" يُقام في "أخطر" المناطق اللبنانية وأولها انهيارًا: بعلبك.
وبالرغم من ذلك، تحدى كل من فرح وكرم، الظروف الاقتصادية القاهرة، والتحديات التقنية والنظرة الاجتماعية المستهجنة وإهمال دولتهم، وأقاما مشروعهما وسط البقاع، في سهله تحديدًا، مستغلين خصائصه الطبيعية الممتازة لزراعة الزعفران اللبناني، بعدما باتت الفكرة منطقية وملحة بعد انتفاضة 17 تشرين التّي شاركوا بها وتأثروا بأهميتها كما بأهمية المبادرات الفردية التغييرية، حسب قولهما...
زراعة بعناية
وفي حقلٍ لا تتعدى مساحته هكتارًا واحدًا، زرع المهندسان بصلاتهما المستوردة. وعملا مع عدد من أهالي المنطقة على العناية والاهتمام بهذه البصلات التّي تفتحت زهراتها الأرجوانية لاحقًا في موسمها. حوالى المئتي ألف بصلة تمت زراعتها بحذر واحترام شديد، لإنتاج ما لا يتعدى الـ200 غرام من الزعفران في السنة الأولى. واليوم يجني المهندسان موسمهما الثاني بنتائج ومحصول أكبر. "ببداية الأزمة تفادينا الوقوع رهينة للعجز العام. كنا نبحث عن البدائل للمنتجات المفقودة أولاً ثم الخدمات وغيرها.. حتى توصلنا لمشروع الزعفران، بدت الفكرة جدلية في البدء، إذ أن معظم معارفنا استهجنوا من فكرة زراعة الزعفران في لبنان، فعادة ما ترتبط هذه الزراعة بإيران بالرغم من تواجدها السّابق في لبنان وبلاد الشام. ومن بعد القيام بعدّة أبحاث علمية وزراعية وتبادل الخبرات مع إحدى الصديقات التّي أقامت مشروعًا مماثلاً في سويسرا (توقف منذ فترة)، والاستحصال على البصلات، ومن ثم البحث عن أرض تصلح للمشروع، فقدم الناشط المدني علي صبري حمادة أرض لزراعتها للتشجيع. هكذا باشرنا زراعة الزعفران اللبناني"، يقول جهاد فرح في حديثه مع "المدن"، وهو مهندس معماري لبناني (41 سنة من الشمال) وحائز على ماجيستر في التنظيم المدني.
"بحب هيدا البلد" يضيف فرح قائلاً: "قد يبدو غريبًا هذا المشروع، لكننا نؤمن أن هذا البلد يستحق إعطاءه فرصة، هذا وناهيك عن أهمية إنعاش قطاع الزراعة وإنتاج منتج زراعي عالي الجودة، وبالتالي تحريك الدورة الاقتصادية. فالجزء الأكبر من مشروعنا هو مشروع إنمائي لاجتذاب يد عاملة وتأمين فرص عمل إضافية لأهالي البلدة من المزارعين والفلاحين المتحمسين للعمل، وما يكتنفهم من فضول لمعرفة ديناميكيات هذا النوع الجديد من الزراعة. وفي ظلّ غياب الدعم ناهيك عن وزارة الزراعة وإهمالها للشأن الزراعي عامةً وشؤون المزارعين والعاملين على وجه الخصوص، نرى أن هذه الخطوة مهمة لتشجيع السكان على تفعيل قطاع الزراعة وخاصة في الظروف المعيشية الراهنة".
وختم: "محصول السنة الماضية بلغ 200 غرام من أصل حوالى المئتي ألف بصلة، وبالرغم من كوننا لم ننته من قطاف الموسم الحالي، إلا أن الكميات تبدو مضاعفة للآن وممتازة، أما عن الأرباح فإننا فعليًا نرى أن المشروع وديمومته أولوية على هذا الموضوع. إلا أن الغرام الواحد في لبنان يُباع بين 10 و15 دولاراً في السوق اللبنانية ويرتفع سعره كلما كانت جودته أعلى. وبالرغم من المجازفة وغلاء أسعار البصول واليد العاملة، نحن نطمح فعليًا لاستكمال هذا المشروع لوضع لبنان على خريطة الدول المنتجة للزعفران وتحقيق ولو إنجاز صغير في هذا الإطار".
الطبيعة المناخية والعقبات التقنية
وإن كانت فكرة زراعة الزعفران ليست جديدة على المنطقة، إذ أن عشرات من المواطنين قاموا بزرع البصلات مطلع عام 2000 بعدما تم استقدامها من إسبانيا. لكن قليلاً من هؤلاء نجح فعليًا في إقامة مشروع مستدام بسبب شح الخبرات في هذا المجال، وقلّة الدراسات والأبحاث العلمية التّي قدمتها وزارة الزراعة لتعليم وتمرين المزارعين على كيفية زراعة الزعفران، وتجميعه، ثم فصل مياسم الزهرات بحذر شديد، وتجفيفها يدويًا، فيما أن الحصول على مئة غرام من الزعفران يحتاج إلى خمسين ألف ميسم، علما أن كل نبتة تحتوي على ثلاثة مياسم فقط.
وهنا يُشير المهندس المعماري كارل كرم (35 سنة، من شمال لبنان)، وهو خريج جامعات لندن والولايات المتحدة الأميركية، والذي شارك وأسهم في إقامة عدد من المشاريع للصناعات الوطنية: "أول عائق واجهناه هو النقص في الخبرات والتجارب، إذ كان من الصعب علينا إيجاد أشخاص يعملون في هذه الزراعة، خصوصاً في البقاع. وعندما تواصلنا مع صديقتنا ياسمينة التّي عملت على مشروع مشابه في سويسرا، حصلنا على بعض المعلومات المفيدة. أما الأرض فكانت المساعد الأساس لنا. إذ يمتاز البقاع الشمالي بمناخه الجاف وتربته الخصبة التّي تناسب الزعفران، والذي يتشارك في متطلباته الزراعية نبتة الحشيشة. إذ لا يحتاج للكثير من المياه، أو أسمدة لمساعدته في النمو، ونحن فعليًا لا نعتمد أي أسمدة أو مواد كيميائية".
ويُضيف كرم: "نطمح فعليًا لإنتاج نوع جديد من المنتجات الفاخرة والوطنية مئة بالمئة، واستقدام يد عاملة من أهالي البلدة خصوصاً النساء منهن، واللواتي شاركن منذ بداية مشروعنا بالزراعة والحصاد. وإن كنا نعطي للنوعية أولوية على الكمية، فذلك من أجل إنجاح هذا المشروع بوصفه منتجًا تفاخريًا، فضلاً عن تسويقنا لأهمية ثقافة الزعفران التّي تستلزم صبراً واهتماماً ومثابرة. والأهم هو نشر هذا النوع من الزراعة لتعزيز التنوع الزراعي، وجعله ثقافة لبنانية، إذ أنه وبخلاف مزاعم البعض أن زراعة الزعفران غير ناجحة في لبنان، أثبتنا وبسنتين أنها ممكنة. بل ونتائجها ممتازة. ناهيك عن الدراسات التّي أقمناها ي هذا المجال".
لايزال كل من كارل كرم وجهاد فرح يمارسان مهنتهما في الهندسة، لكنهما مقتنعان تمام القناعة بجدوى وأهمية مشروعهما في منطقة تحتاج لبصيص أمل بأزهارهما البنفسجية وإيمانهما بالتغيير، تحدياً للظروف الصعبة وزرعاً في وسط البقاع المأزوم حقلاً للزعفران اللبناني، الذي يُستخدم للطعام والعطور والصيدلة، مؤمنين بأن النجاح الفعليّ تراكمي وشاق. يستلزم في لبنان الجرأة الكافية والعمل المضنيّ والاستعاضة عن الجهات الرسمية الغائبة باجتراح الحلول وأحيانًا المعجزات.
تعليقات: