شعب غارق فما الخوف من البلل!


طوفان كفرحباب ــ غزير ــ جونيه: ابحثوا عن التعدّيات

راجانا حمية

لا تُسأل الطبيعة وحدها عن الكوارث التي تحلّ مع كلّ موسم مطر، فهذه الأخيرة ليست إلا سبباً عابراً وبديهياً، فيما توصل الأسباب الأخرى إلى إغراق بلد بأكمله، من دون أن يشعر المسؤولون بأيّ إحساس بالذنب. في حالة غزير وكفرحباب وجونيه، لعب تقاعس سلطات الوصاية، الطاقة تحديداً، وتواطؤ السلطات المحلية الدور الحاسم في غرق هذه المناطق بسبب التغاضي المزمن عن التعديات القائمة على مجاري الأنهار والسواقي الطبيعية

غرقت غزير، ومعها المناطق المجاورة، مع ثالث «شتوة»، كما سبق لها أن غرقت في المرتين السابقتين. الغرق ليس توصيفاً عابراً لما حدث أول من أمس هناك وعند أوتوستراد جونيه لاحقاً، مع تحوّل منطقة بأكملها إلى مستنقع هائلٍ من الأمطار الموحلة.

طوال ساعة ونصف ساعة، شُلّت الحياة تماماً. مجاري تصريف المياه على الطرقات فقدت القدرة على استيعاب كميات الأمطار الآتية من الأعالي، من مجاري الأنهار والسواقي الطبيعية التي أصابها عطب التعديات، ما تسبّب بالمشهد القاتم الذي رأيناه أمس: أرتال من السيارات عالقة في قلب المستنقع، مدارس عدّلت موعد خروج طلابها خوفاً من الحوادث، والدة تنقل أطفالها وحقائبهم المدرسية على ظهر «بيك أب»، وبيوت عائمة بمياه الشوارع الموحلة. يوم شبّهه الناجون منه بـ«القيامة»، وهي نسخة قابلة للتكرار مع الموسم القادم ليس في المنطقة الكسروانية فحسب، وإنما في كل منطقة تتشابه فيها العوامل.


كمية المتساقطات

قد يكون ما حدث في غزير «متل الكذب»، بحسب ما يقول رئيس بلديتها شارل الحدّاد، فيما لو أخذنا في الحسبان الحدث الطبيعي المتمثل بكمية الأمطار المتساقطة، ولكنه يستحيل «غير ذلك»، مع التطرّق إلى مسألة توزيع المسؤوليات عمّا جرى.

في الشق الطبيعي، لم تكن الأمطار التي تساقطت أول من أمس ضمن المستوى المعتاد عليه حتى في موسم الغزارة، وإنما كانت استثنائية ليس فقط لناحية الكمية وإنما لناحية الوقت أيضاً. وبحسب المعلومات، فقد بلغت كمية المتساقطات أول من أمس 105 ملليمترات في فترة قياسية لم تتعدَّ الساعتين، فيما بلغت في مثل تلك الفترة من العام الماضي ما نسبته 35 ملليمتراً تساقطت على مدى عشر ساعات. ولأن الرقم «غير مسبوق»، كان يسهل على البعض القول إن هذه الشتوة فاقت ما يمكن أن يساوي ثلاث دفعات من الأمطار خلال الموسم الماضي. وأكثر من ذلك، بلغت هذه النسبة «ثُمن» المعدّل السنوي من المتساقطات للعام الماضي والذي بلغ 800 ملليمتر! وهذا إن كان يعني شيئاً بالنسبة إلى من عاشوا التجربة أول من أمس، فهو أنها «كانت أمطاراً فيضانية بكل معنى الكلمة»، يقول الحدّاد. ويذهب الأخير أبعد من ذلك في الوصف، مشيراً إلى أنه «بستّين سنة من عمري ما قطع عليي هيك شتي».


مجاري الأنهار

يمكن تصنيف هذا العامل الطبيعي باعتباره واحداً من الأسباب التي أدّت إلى فيضان أول من أمس، لكنه ليس السبب الوحيد حكماً. فثمة ما يفوق الطبيعي عند الدخول في الشق المتعلق بالمسؤوليات. والسؤال هنا: من يتحمّل مسؤولية مواسم الغرق؟

في حالة غزير والمناطق المجاورة، المسألة غير محصورة فقط في أقنية ومجاري المياه الداخلية التي لم يجرِ تحديثها منذ فتراتٍ طويلة لتتناسب والطفرة السكانية والعمرانية هناك، فالمشكلة التي تظهّرت أول من أمس هي أن الجزء الأكبر من الفيضان كان يأتي من «فوق»، من مجاري الأنهار والسواقي الطبيعية المقفلة بالتعديات، بحسب ما أظهرت المقاطع المصوّرة وبحسب مصادر متابعة في وزارة الأشغال العامة، ووزارة الطاقة والمياه أيضاً.

في الأحوال العادية، كانت وظيفة هذه المجاري والسواقي في مواسم الشتاء الغزيرة أن تشكل معبراً للأمطار التي يذهب الجزء الأكبر منها نحو البحر، والجزء الآخر في مصارف المياه الشتوية، إلا أنها اليوم لم تعد تلعب الدور نفسه. ويقود هذا التغيّر في الأدوار إلى أزمة التعدّيات على المجاري الطبيعية. وهو ما حدث في أعالي المنطقة الكسروانية مع هطول الأمطار، حيث تشير المصادر إلى أنه «منذ سنوات، قامت بعض التعدّيات على تلك المجاري من دون الأخذ في الحسبان مدى فداحة هذا الأمر، والذي تظهر تداعياته مع مواسم الأمطار».

المشكلة لا تقتصر على حصول التعدّي وإنما على مروره، إذ إن «أصحاب التعديات» مجبرون على أخذ الموافقات اللازمة لإقامة المنشأة أو المبنى من وزارة الطاقة والمياه بما أنّها الطرف الوصي. وبحسب المصادر، تُعطى الرخص «بناءً على الالتزام بشروط معينة». البديهي في الأمر «ألا تسمح الوزارة لأي أحد بالتعدي على مسلك طبيعي إن كان ذلك يشكل إضراراً». هذا ما يفرضه المبدأ العام، أما على أرض الواقع... فلا رخصة ولا من يرخّصون.


الطاقة والمياه: التعديات أوّلاً

ثمة مسؤولية مزدوجة تقع إذاً، على عاتق وزارة الطاقة كسلطة وصاية على الأملاك العامة، والبلديات كسلطة محلية التي تقع تلك الأملاك ضمن نطاقها.

في الشق الأول، تتخفّف وزارة الطاقة من هذه المسؤولية، انطلاقاً من أنها ليست سوبرمان... فهي لا يمكنها أن تعرف بهذه التعديات. ويتساءل مصدر في الوزارة «كيف يمكن أن نعرف بالتعديات إن لم تعلمنا السلطات المحلية بذلك؟ فنحن لا نملك دوريات ولسنا ضابطة عدلية فكيف لنا أن نعرف بذلك؟». بحسب الأخير، يقع على عاتق البلديات «التأكّد ما إن كانت هناك تعديات، فهي المسؤولة عن تنفيذ تلك الرخص، ومن المفترض أن تجمّدها في حال تبيّن أن هناك تعدّياً على الأملاك، ومن ثم تعطي الوزارة علماً بذلك». وإن كانت الوزارة «لا تعرف»، إلا أن اليقين ثابت لديها بأن 99% من الحاصل في معظم الأملاك تأتي في إطار التعدّيات «وليس بموجب مراسيم إشغال أو أذونات». فلماذا لا تتحرّك إذاً؟

بلغت كمية المتساقطات 105 ملليمترات خلال ساعتين، فيما بلغت 35 ملليمتراً خلال 10 ساعات العام الماضي

تجيب المصادر بأنه «حصلت عبر سنين عدة محاولات لرصد التعديات ومعالجتها، وقمنا بحملة خلال عام 2003 استمرّت لمدة شهر ثم توقفت بسبب التدخلات السياسية». ومن بعدها، طالبت الوزارة بحدود عام 2012 بزيادة على الموازنة «وطلبنا حينها زيادة 40 مليار ليرة لمعالجة هذا الملف، إلا أن وزارة المال رفضت، ثم جدّدنا الطلب في عام 2015 فرُصد مبلغ بحدود ملياري ليرة بالكاد يكفي لتنظيف الأنهار». ومنذ عام 2019 وحتى اللحظة، لم تعد هذه التعدّيات في سلّم الأولويات بسبب الأزمة التي يفرضها غياب التمويل «وفي كلّ عام نطلب من البلديات أن تحاول قدر الإمكان تنظيف المجاري في نطاقها البلدي»!

ينعكس هذا السيناريو على ما جرى أول من أمس في أعالي كسروان والذي أغرق غزير ومحيطها. ويضاف إليه «عدم وجود مجارٍ لتصريف مياه الأمطار على طول الطريق هناك».

لكلّ تلك الأسباب، كانت غزير أولى ضحايا الشتاء، ولكنها لن تكون آخرها، فالموسم سيجرجر الكثير من الضحايا طالما أن ملفّ التعديات مستمرّ.



جونية: أول الغارقين في الدولة الفاشلة

غسان سعود

سيمرّ المشهد عرضياً، ككل ما سبقه وسيلحق به. بضع تغريدات انفعالية ومقدمات تلفزيونية خنفشارية، ثم حدث آخر وانفعالات أخرى، إلى ما لا نهاية. في ظل سرعة هائلة، لا تتيح لأيّ حدث أن يأخذ نفَساً أو يحجز مساحته المستحقة.

مع ذلك، لا بدَّ من التوقف قليلاً عند سيول جونية وضواحيها، لأنها جونية بالتحديد.

ليس «جونية اللؤلؤة» أو غيره من الشعارات التي لم تقدم شيئاً للمدينة سوى مخالفات البناء على طول واجهتها البحرية وفي أحراجها التي كان يفترض أن تكون محمية، قبل أن يربط مشروع رفيق الحريري اسمها بالمعاملتين حصراً. ولا جونية التي تضعها بعض العقول الرجعية في مرتبة أهم من غيرها وفق خلفية مذهبية لا ثقافية أو إنتاجية...


وإنما جونية النائب الثوري نعمة افرام و«إنسانه أولاً»، والذي يقدم نفسه مرشحاً إلى ما بعد بعد الرئاسة. وجونية البطريركية المارونية التي تكدّس الأموال فوق الأرزاق فوق عائدات الوقف والمؤسسات، من دون أن تقدم لهذا البلد الذي تحمل نير مجده المفترض أكثر من الخطابات ومطالبة الآخرين بفعل شيء ما. جونية فريد هيكل الخازن الذي كاد «يزفّت» سطوح المنازل حين كانت وزارة الأشغال في يد تيار المردة. جونية جوان حبيش الذي ينشغل بتنظيم مهرجان صيفي طويل لرفع اسم مدينته من دون أن يهتم بالضغط والمتابعة لتنفيذ ما يفترض تنفيذه من أجل حمايتها من الغرق. جونية التي خصّها العماد ميشال عون وحدها بزيارة مهرجانية، عشية الانتخابات البلدية السابقة، ليقول إن له فيها ما لا يمكن أبداً خسارته. جونية التي تصرّ القوات اللبنانية على إيجاد موطئ قدم لها فيها عبر المساعدات المالية والغذائية والتربوية والاستشفائية الصغيرة بدل المشاريع الكبيرة التي تفيد كل الناس. في جونية هؤلاء، يغرق الناس في سياراتهم وتغمر المياه منازلهم من دون أن يرفّ لفعالياتها الروحية والسياسية رمش.

من يسألون دائماً عما يحصل نتيجة الفقر في طرابلس التي «خرّجت» مليارديرية، يتقدّمهم الرئيس نجيب ميقاتي، عليهم أن يسألوا أيضاً كيف يمكن أن يحصل ما حصل وسيحصل في جونية رغم حرص ابنها نعمة افرام على «الإنسان»، ورغم نفوذ ابنها الآخر فريد الخازن في «الأشغال»، ورغم قدرات بلديتها، ورغم إغداقها الأصوات على العونيين والقوات. من دون أن ننسى أن السبب في ما حصل وسيحصل مجدداً، ويبرّر لهؤلاء كل هذا التجاهل، هو الناخب نفسه الذي يفضل الخدمات المباشرة الصغيرة على المشاريع الإنمائية الكبيرة، ويؤيد من يمنحه بطاقة استشفائية أو علبة دواء من دون أن يبالي بما يفترض أن يجنّبه المرض.

لأنها جونية لا بدّ من التوقف عند ما حصل، واستعادة التنافس الذي شهده العقدان الماضيان بين افرام وحبيش على هدر عشرات آلاف الدولارات في احتفاليات المفرقعات لـ«رفع اسم المدينة عالياً»، بدل التنافس على ترميم البنية التحتية للمدينة أو تطويرها أو وضع تصور اقتصادي يحدد وظيفتها بعدما فقدت منذ سنوات بعيدة هويتها الاقتصادية.

جونية نموذج عن شعب يتفاخر بالتبولة والفتوش من دون أن يهتم بالصرف الصحي الذي تسقى به البندورة والبقدونس

والكارثة الأكبر أنه لا أحد من المعنيين عندما يُسأل عما حصل، يجيب بأنه «نورمال». عادي أن يغرق الناس في سياراتهم ويعيشوا هذا الخوف كله. طبيعي جداً أن يحصل ما يحصل طالما أن البناء العشوائي لم يترك ممرات للأمطار غير الأوتوستراد، فباتت تسلكه من حريصا إلى البحر، مروراً بالمنازل والمطاعم والمتاجر والسيارات والمشاة. من المسؤول عن توزيع رخص البناء؟ وعن التنظيم المدني؟ وعن محاسبة وزراء الأشغال؟ وعن كل هذا الانعدام في التخطيط أو المتابعة أو المحاسبة أو المعالجة طالما أن ما يحصل يتكرر دوريّاً.

جونية نموذج عن إعادة الإعمار الرسمي والخاص الذي لا يهتم سوى بتشييد الأبنية الجميلة من الخارج دون اهتمام بمجاري المياه التي ستهطل فوقها أو بصرفها الصحي أو مواقف السيارات أو إمدادات المياه أو علاقة البر بالبحر! هي نموذج عن شعب يتفاخر بالتبولة والفتوش من دون أدنى اهتمام بالصرف الصحي الذي تسقى به البندورة والبقدونس.

جونية نتيجة «نورمال» جداً لذهنية شعب وأحزاب ونواب وبيوتات ووزارات.

جونية: أول الغارقين في الدولة الفاشلة
جونية: أول الغارقين في الدولة الفاشلة


تعليقات: