ضهر المغر: مساكن الموت الوشيك على ضفاف أبو علي


صعودًا على الأدراج، تصل إلى العتبة الأولى من تلةٍ منسية. تلتقط أنفاسك، ثم ترصد على مدّ نظرك آلاف الوحدات السكنية المترامية على أطراف السُلّم، وطرقات متعرجة غير مسطحة، تغزوها الحفر وبقايا الردم. ومن الأسفل إلى الأعلى، تحرك رأسك متسائلًا: هل البيوت ستهبط على رؤوس ساكنيها؟ أم أن الأرض ستنشق وتبتلع من عليها؟

كل الاحتمالات واردة، هنا في "ضهر المغر" اعتاد القاطنون على رداءة العيش القاتلة، ليس عبثًا، بل لأنهم لم يختبروا طعم الحياة تحت سقف آمن.


حكايا السكان

يعرف سكان "ضهر المغر" الذي يقارب عددهم 50 ألف نسمة، وجوه الغرباء ما إن تطأ أقدامهم الأدراج، فتتحرك عيونهم بدهشةٍ في كل الاتجاهات. تطلّ بعض النسوة من الشرفات، تبعدن حبال الغسيل، وتنادين: "هل أنتم جمعية؟ أم ماذا؟ طلعوا لعندي شوفوا الخراب". تقاطعها جارتها: "لعندي بالأول. والله السقف رح يوقع والأرض رح تتكسر".

ثم يخرج بعض الرجال من أمام محالهم ومقاهي الحيّ العتيقة، ويتسامرون بصوتٍ عالٍ ليسمع هؤلاء الغرباء: "كلهم كذابين يا عمي"؛ "يأتون ويذهبون ويطلقون الوعود ثم لا نرى منهم شيئًا...".

أما الصبيان والفتيات الذين يلعبون على السلالم، وهي فسحتهم المشمسة الوحيدة، يهربون من رطوبة منازلهم، وهي تقاوم السقوط شتوةً تلو أخرى. ويهرعون نحو الغرباء عارضين ببراءتهم مساعدات مجانية: "هل ندلكم على بيتنا؟ هل ندلكم على ركام المنزل الذي ماتت تحت أنقاضه رفيقتنا؟"


مأساة "طرابلس النهرية"

تطل "ضهر المغر" على ضفاف نهر "أبو علي" الشحيح، وهي من أقدم مناطق "طرابلس النهرية". وكانت شاهدة على الفيضان الكبير العام 1955، الذي ألحق أضرارًا هائلة بأبنيتها، المصنف بعضها أثري.

ولسوء حظها، كانت "ضهر المغر" جزءًا من المنطقة التي نُفذ فيها مشروع فاشل لم يكتمل منذ العام 2005، حمل مسمى "مشروع الإرث الثقافي" بإشراف مجلس الإنماء والإعمار، وبتمويل من البنك المركزي الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية، والمديرية العامة الإيطالية للتعاون والتنمية، وخصص له نحو 19 مليون دولاراً أميركياً.

أما النتيجة، فكانت إساءة فاضحة في إعادة تأهيل وإحياء قلب المدينة التاريخية المتاخمة للنهر، وجرى سقف أجزاء كبيرة منه، فتحول مرتعًا للعربات وبسطات "البالة". وهذا بحثٌ آخر.

لنبقى في "ضهر المغر"، ونحن نعبر من أمام ذاك الركام، الذي لفظت تحته الطفلة جومانة (5 سنوات) أنفسها الأخيرة في حزيران الفائت. أي قبل 5 أشهر فقط من مقتل الطالبة ماغي محمود (16 عاما)، حين سقط على رأسها داخل صفها المدرسي جزء من سقف حجري قديم، في "جبل محسن" المتاخمة لـ"ضهر المغر".

نرصد، هنا، أبنية كثيرة مأهولة تغزوها التشققات الخطرة ومهددة بالسقوط أيضًا، إن بسبب تقادمها أو جراء عوامل طبيعية، كعاصفة هوجاء أو هزة تكون فريسة سهلة لها.

"نعيش برأفة الله ورحمته. لا نعلم متى يسقط المنزل فوق رؤوسنا"، تقول رانية الحجي من سكان "ضهر المغر" لـ"المدن". وهي تسكن مع 10 من أبنائها في مساحة صغيرة متصدعة، مشيّدة من خفان قديم غير مطلي، بلا شبابيك، وبلا إمدادات صحية، تدخلها الحشرات بكثرة، وتتسرب إليها مياه آسنة وتطوف في الشتاء، ويطلق عليها اسم "بيت".

لكن آل الحجي، واحدة من آلاف الأسر البائسة والمنسية، تعيش في منازل مهددة بالسقوط لا بديل لهم عنها. ومعظمهم من المستأجرين القدامى، ولا يجدون مستجيبًا لنداءاتهم، لا من المالكين ولا من الدولة والبلديات ولا من صندوق المهجرين ومجلس الإنماء والإعمار.

ولهذا الواقع، أسباب كثيرة محورها الإهمال القاتل، مقابل التذرع برفض المالكين تكبد تكاليف الترميم الباهظة من دون مساندة الدولة. أو لأن بعض الأبنية المأهولة ذات طابع تراثي، ويحتاج ترميمها لإذن وإشراف مديرية الآثار.


خطر بلا مسوحات رسمية

في "ضهر المغر"، كما سائر "مناطق طرابلس النهرية"، يعود إنشاء معظم الأبنية القديمة إلى عهود مختلفة في الحقبتين المملوكية والعثمانية. بينما آلاف الأبنية، أي أكثرها، تم بناؤها في بداية السبعينيات، قبل الحرب الأهلية.

ونتيجة الفوضى العارمة في تلك المرحلة وما تبعها، نشأت مئات الأبنية المخالفة للقانون. وبعد عقود، ونظرًا لسوء بنائها، أصبحت تحتاج إلى صيانة أساسية من طرش وتلبيس ومعالجة للنشّ، وصيانة شبكات الصرف الصحي والامدادات الكهربائية.

شمالًا، سبق أن تأسست في طرابلس لجنة فنية خاصة لمتابعة شؤون الأبنية المهددة بالسقوط، تضم ممثلين عن البلدية، والمديرية العامة للتنظيم المدني والمديرية العامة للآثار بإشراف رئيس البلدية، من مهامها الإشراف على تجديد وإحياء المنطقة، على أن تكون موافقتها ملزمة لجميع الأطراف.

واللافت لدى المراجعة، أن هذه اللجنة ليس لديها أي داتا معلومات رسمية حول أعداد الأبنية المهددة بالسقوط ودرجة خطورتها، كما لا يوجد أي مسوحات رسمية لمناطق "طرابلس النهرية".

وحتى لو تمكنت اللجنة من إجراء المسوحات ورصد أعداد الأبنية المهددة بالسقوط، ستواجه عملية تأهيلها وترميمها، في حال حصلت على التمويل، الكثير من العقبات والشروط التعجيزية، بسبب تعقيد إجراءات الترميم، وفرض شروط صعبة وصارمة في التصاميم التوجيهية.

وفي هذه السياق، يشير مهندس التخطيط المدني يوسف عزام، وهو رئيس "جمعية شبكة سلامة المباني" غير الحكومية (تأسست العام 2007 وتضم مجموعة من المهندسين)، إلى أن أبنية طرابلس نموذج مصغر عن مشكلة وطنية كبيرة، لأن معظم المباني السكنية القديمة في لبنان، أجريت عليها تعديلات بعد الحرب الأهلية، وأصبحت غير مطابقة للمواصفات الهندسية وللسلامة العامة.

ونظرا لغياب المسوحات الرسمية، قامت الجمعية في العام 2014، بمسح عبر تنزيل الخرائط الخاصة من برنامج الصور الجوية GIS، ورصدت فيها وجود نحو 16 ألف مبنى قديم في لبنان تحتاج لصيانة فورية. كما يقدر وجود نحو 4 آلاف مبنى على الأقل من بينها في طرابلس وضواحيها.

لكن هذا الرقم غير الرسمي وغير النهائي، يعطي لمحة عن واقع أكثر خطورة. فبعد نحو ثماني سنوات على المسح، وبعد انفجار مرفأ بيروت، ونظرا لتأثيرات العوامل الطبيعية، فـ"إن أعداد الأبنية غير الآمنة ارتفع كثيرًا حتمًا"، يقول عزام، ويوضح أن المناطق التي تكثر فيها الأبنية غير الآمنة، تشكو من كثافة سكنية مرتفعة، مثل ضواحي بيروت وطرابلس وضواحيها. كما تشكو من مشاكل قانونية بالبناء.

ووفق عزام تتذرع السلطة بعدم إجراء المسوحات لتفادي مواجهة السكان، الذين يخشون من خسارة منازلهم، خصوصًا أن عددًا كبيرًا من هذه الوحدات السكنية تخضع لقانون الإيجارات القديمة، كاشفاً أن الأبنية الأثرية تشكل نحو 5 بالمئة فقط من المشكلة الكبرى، لأن معظم الأبنية غير الآمنة ليس لها تصنيف تراثي. ويحذر من المخاطر المتصاعدة في فصل الشتاء، الذي يفضح المشاكل الإنشائية ويهدد سلامة السكان.

وتشير معلومات "المدن" إلى استغلال الكثيرين لغياب الدولة بمراقبة عملية الإنشاء أو الترميم، ويلجؤون إلى الغش بجودة مواد البناء لتحقيق الأرباح. وهنا، يوضح عزام أن المسؤوليات متشعبة في قضية المباني المهددة بالسقوط. قانونيًا، المسؤولية المباشرة تقع على مالك المبنى. لكن، "لوزارة الأشغال والبلديات دور أساسي، إضافة إلى مديريتي التنظيم المدني والآثار، كذلك لمن أعطى التراخيص ومن راقب عملية البناء والترميم".

أما "ضهر المغر"، فليست إلا حكاية عن موت وشيك لآلاف السكان الفقراء تحت سقوف منازل هشّة، ولا يملكون ترف "اللجوء" إلى مساكن أخرى أكثر أمانًا.

تعليقات: