المدن في مخيمات اللاجئين بعيدا عن تنميط الوزير

تحول النازحون إلى شماعة تعلق عليها أسباب التدهور العام الذي تعانيه البلاد (لوسي بارسخيان)
تحول النازحون إلى شماعة تعلق عليها أسباب التدهور العام الذي تعانيه البلاد (لوسي بارسخيان)


تحت عنوان "عندما يتحول النازح الى رجل أعمال... دكاكين، مزارع، مسالخ، ومطاعم.. عينة من المخالفات تشاهدونها من قلب بعض مخيمات البقاع الأوسط" اختار وزير الشؤون الاجتماعية فيكتور حجار أن ينشر جولته المتلفزة مع قناة الحرة في مخيمات النازحين قبل أيام، مغفلا بالعنوان الواقع الإنساني الذي يبدو وكأنه تعاطف معه خلال الجولة، خصوصاً بالنسبة لأعداد الأولاد الذين لم يتسجلوا في المدارس. فحمل العنوان الذي أعطاه الوزير لجولته، عناصر التحريض على واقع لم يختاره النازحون، حتى لو تأقلم الكثيرون معه في بعض المخيمات.


الحقد اليومي

تلقف الوزير حجار إذاً النموذج الذي يعزز حملته المطالبة بترحيل النازحين "طوعا" الى مناطقهم الآمنة.. وهو لا يزال من الذين يشنون حملات يومية على المنظمات والهيئات المانحة، ويهدّدها بتحول النزوح في لبنان الى قنبلة موقوتة قد تنفجر بوجه المجتمعات الأوروبية خصوصاً.

أما أن تكون من أصحاب النظرة المختلفة، التي ترى في النازحين ضحايا وليس متهمين بالأزمة اللبنانية، فيجب أن تتوقع التنمر من قبل معادي النازحين، غير المستعدين حتى لتفهم إصرارهم على البقاء في لبنان، على رغم الظروف المعدمة التي يعانيها البعض.

في هذه المجتمعات التي تتغذى على حقد يومي، وقع الكثيرون في فخ التعمية التي تلجأ اليها السلطة التي يفترض أنها مسؤولة في لبنان، لتحويل النظر عن تقصيرها. فيتشاركون مع هذه السلطة تحميل النازحين شماعة التدهور العام الذي تعانيه البلاد، معيشيا واجتماعيا وتربوياً وصحيا. بعضهم، يصورون الهاربين من النظام السوري، عملاء له وشركاء في خراب هذا البلد. فتنعدم حينها النظرة الإنسانية تجاه ساكني هذه المخيمات.

ولكن ماذا لو دققنا أولا في العنوان الذي وضعه الوزير حجار لإطلالته الإعلامية. ألا يعتبر الواقع الذي يصفه نتيجة لتقاعس الدولة بالقيام بواجباتها أقله لناحية تنظيم واقع هذه المخيمات، وتعقب المخالفات فيها، والعمل مع المنظمات على تأمين ظروف حياة صحية فيها، أسوة بدول أخرى استقبلت النازحين ولكنها أبقت مخيماتهم تحت سيطرتها؛ بدلا من استغلال هذا الواقع للضغط عليها لترحيل النازحين، خلافا لإرادتهم بالعودة الى نظام أعربت سيدة في الجولة المتلفزة للوزير عن خشيتها منه.

حاول الوزير حجار في المقابل أن يظهر السيدة وكأنها تخفي عمل زوجها، وانقضاضه ربما على فرص العمل التي ينتظرها اللبنانيون. ليبدو الأمر مجددا تعزيزاً للأحقاد على حساب تعمية الرأي العام اللبناني، غير المستعد بالأساس لتولي الأعمال التي يتولاها هؤلاء. فمن من اللبنانيين مثلا يطمح للعمل في جمع النفايات أو في مطمرها، أو في "الفعالة" بالبناء والأراضي الزراعية. وكلها أشغال لا شك أنها أمنت للنازحين قدرة على الصمود ولكن ليس على العيش في النعيم الذي يصوره بعضهم. وهي عززت التنافس فيما بينهم على أشغال اعتبرها اللبنانيون منذ ولادتهم أنها من وظائف العمالة السورية، حتى قبل موجة الهجرة التي دفعت بهم الى لبنان.


خيم ممزقة

ومع ذلك تتكرر على الآذان يوميا في هذه المجتمعات مقولة "عايشين احلى منا". حتى لو كانت مشاهدات بسيطة تدحض هذا الواقع، ولكن بشرط أن يكون النظر غير محمل بأحقاد مسبقة.

وفيما يلي جولة موازية لجولة الوزير حجار في مخيمات البقاع الأوسط تحديدا، وعلى أبواب موسم شتاء، يترك انطباعات عديدة بأن هؤلاء النازحين متروكون، حتى بظل المساعدات التي يتقاضونها.

فبعد 11 سنة من اللجوء، قلّت كثيرا المساعدات التي تقدم للنازحين لتجهيز خيمهم بالشوادر التي تقيهم. وعليه صارت معظم الخيم مرقعة بلوحات إعلانية، بعضها من مخلفات الانتخابات، وحرامات قديمة، وحتى قطع الكرتون التي تفتت بعد أول شتوة هطلت.

قصدنا هذه المخيمات صبيحة يوم تلا هطول الأمطار، فوجدنا أن بعض من في المخيم انشغل بتنظيف صوبيات كانوا قد تسلموها كهبة من قبل إحدى الجهات المانحة، ليتبين أنها لا تعمل لأكثر من سنة فجُمع عدد منها قرب الخيم بعد أن تحولت إلى خردة. وقد يكون السبب أن أحداً لم يكن يتوقع بالأساس أن تطول فترة النزوح الى هذه الدرجة.

ولا بد من الإشارة الى شطب عائلات كثيرة من تقديمات المازوت، أو اضطرار بعضها لاستخدام هذه التقديمات في تأمين حاجيات أخرى وبالتالي استعاضتها عن المازوت بالخشب والبلاستيك وحتى بخرق الثياب.

تتحدث إحدى السيدات عن استعارتها للصوبيا لليلة واحدة حتى تؤمن لطفلها الرضيع الدفء خلال استحمامه. فيما تدلنا سيدة أخرى، زوّجت قاصرا وتطلقت في سن ال 17، الى خرق مجمعة على حافة خيمتها لتتحدث عن نقل طفلها الرضيع الى المستشفى لإصابته بحالة اختناق جراء تنشق دخانها.

في هذه المخيمات تشاهد الكثير من الأطفال الذين لا يذهبون الى المدارس، تماما كما لاحظ الوزير حجار. والسبب ان المدرسة تحتاج الى تنقلات. صحيح أن هناك وعود بمبلغ 25 دولار لكل طفل يدخل الى المدرسة الرسمية، إلا أنه لن يستفيد منه سوى عدد قليل من أبناء هذه المخيمات الذين عثروا على مقعد في المدارس، خصوصا أن دوامات أولاد النازحين حصرت في فترة بعد الظهر وحرموا من الاندماج بالفترة الصباحية. حتى لو كانت أعداد التلاميذ صباحا لا تكفي لفتح صفوف أحياناً. وهذا الواقع وضع الأهل أمام حيرة في الاختيار بين واحد من أولادهم لتعليمه. فهل يمكن أن يتخيل أحدهم العذاب الذي يقاسيه الأهل عندما يختارون واحدا فقط ليتعلم، ليتركوا الباقين يسرحون بين الخيم، ملعبهم السهل مع قطة أو كلب أحيانا.


تمييز عنصري

ورغم ذلك تواجه هذه المجتمعات بنظرة عنصرية أحيانا يختصرها البعض بعبارة "هم معتادون ذلك". فيما يحسدهم البعض على ما يعتبرونه امتيازا يتلقونه من الجمعيات والهيئات المانحة، جاء على حساب حياة وبيت كانوا ينعمون به في بلدهم، فحاول بعضهم أن يعوض عليه ولو بديكور بسيط في خيمة أو بمرطبانات المونة التي تظهر على الرفوف.

هذه مشاهد قد تدفع لرؤية فلاح داخل المخيمات. إلا أنه سرعان ما يبددها مشهد هبوط أجزاء الخيم في الداخل وتداعيها على بعض أثاثه، ما يدفع بسكانها الى ترقيعها بألواح الخشب القليلة التي يزودون بها مع شوادر، بات سعر الواحد منها 500 ألف ليرة ويكاد لا يكفي لسد ثغرة في السقف، همهم حاليا ألا تغرق الخيم بالأمطار، اما الثلوج وثقلها فلا أحد يضمن تداعياتها.

ليكتمل البؤس، مع مشهد رجل غطس بالمجارير وأطفال تسبح اقدامهم بها في الممرات بين المخيمات، بينما الحملات متواصلة للتوعية من الكوليرا.

أو أمام مشهد النفايات التي تتراكم على ابواب معظم المخيمات، وسط صرخة من اعبائها التي ذكر أنها زادت نفقات مطمر زحلة الصحي مثلا أربعين بالمئة، فلجأ بعضها ومن بينها بلدية زحلة لفرض رسم على لم النفايات من تجمعات النازحين. هذا في وقت تلقى بعض سكانها إنذارات برفع رسوم أجرة الخيمة الشهري من مليوني ليرة سنويا الى 20 دولار شهريا.

ذلك لا يعني أن ليس هناك أشخاص "مرزوقين" بين النازحين، تعرفهم من ترتيب خيمهم، وحتى من اللبن الذي يقي رؤوسهم ويؤمن لهم الخصوصية عن باقي المخيمات. ولكن هؤلاء ليسوا الا قلة. أما باقي المشهد معتم. وهو مكان مظلم وموحش يعيش فيه الناس في البرية، ويفقدون فيه حتى إنسانيتهم أحيانا.

وهم يعّيرون بتقاضي الدولار الذي تستفيد منه الجهات المصرفية وحتى العاملين في الجمعيات، في وقت تشطب أسماء الكثيرين سنويا من هذه المساعدات، ويبلغون بذلك برسالة نصية لا تعطيهم حق الاعتراض، بذريعة نقل هذه المساعدات إلى من هم أكثر حاجة.

فيما استغلال هذه المداخيل يتخطى المحلات المتعاقدة مع الجمعيات، الى الدكاكين التي نشأت داخل المخيمات لتؤمن نوعا من الكفاية، أو توفير مشقة الانتقال أقله، ومن بينها محلات للخضار والسمانة وخطوط التشريج وغيرها.

وبعد، هل يصح حقاً أن يستمر بعضهم بترداد مقولة "يعيشون أفضل منا"؟.






تعليقات: