طالعتني هذه الكلمات في وسط مدينة بيروت على الرصيف بين المصرف والبرلمان.
أجساد متراخية وأجساد مشدودة وأجساد تشبه علامة الإستفهام.
"تعوّدْنا"، بهذه الكلمة توجّه رجل ستيني لآخر وهو يمج سيجارة السيدزر إلى ما بعد أعماق رئتيه.
ما أن ينطق رجل السيكيوريتي برقم ما حتى يبشّ حامل هذا الرقم وقد طفحتْ معالمه بكل إمارات الفرح والحبور والإمتنان.
كفّتْ المصارف في لبنان عن أن تكون كيانات محض مالية بل صارت أقرب إلى معسكرات مهفهفة لتدجين الطبائع. "تعوّدْنا"، قال الستيني، وقد نمّ وجهه عن ابتسامة عريضة إذ ثمة أرقام قليلة تفصله عن نعمة الولوج إلى داخل المصرف لقبض راتبه التقاعدي.
إن الناس في هذا الحيّز الأخرق، لا يتجاوزون أن يكونوا مجموعة من السعادين التي تجيد الإنتظار أمام أبواب المصرف ثم الإنتظار تلو الإنتظار. إن الإنتظار هنا هو بمثابة حبل فائق المتانة ومشدود بقوة بين خارج السيرك المصرفي وداخله. ثمة في هذا البلد من قد نجح في جعلنا نجيد السير فوق هذا الحبل بخفة وتوازن بل والأنكى، بشعور من الإمتنان... قال أحدهم للستيني: "الحمد الله بعدنا عم نقبض".
ربما الحضيض هو من يرتّب الأمزجة لتتماشى مع الخمول ومع الهزيمة وصولاً لتماهي تلك الأمزجة مع ذل العيش واستئناس الملل. لا تني الشفاه أمام باب المصرف تطلق الكثير من زفرات الملل الذي يتجسّد أيضاً عبر هرش الشعر فوق رؤوس مطرقة وطقطقة الأصابع ثم تمريرها فوق الرقبة من جهة الخلف فنقر تجويفات الآذان وحكّ الذقن والرقبة وتحت الإبط وأماكن حساسة من الجسد فضلاً عن التثاؤب والدخان والدخان والدخان!!
قد يظن الواحد منا أن الملل هو اعتداء غاشم على محض الأمزجة والأذهان، لكنه أمام المصرف هو أيضاً اعتداء فاضح على الجسد المهان.
يقع المصرف الذي أنا بصدده قرب المجلس النيابي بل على بُعد خطوات معدودات منه، أما ترهّل ناس الإنتظار أمام ذلك المصرف فهو أشبه بترهّل مطرقة تعلن افتتاح الجلسات في برلمان العفونة ذاك حيث سنّ القوانين التي تنظّم ترتيب الإهانات لكل مواطن في لبنان.
أكثر ما ساق ذهني في تلك المسافة الممتدة بين المصرف والبرلمان السؤال التالي: كم تبقّى من احتياطٍ في أرصدة أعصاب الناس في هذا البلد المنكوب، في هذه الجغرافيا المضطربة والتي تدعى لبنان؟ لست أدري ولم أعد أبالي بهذا الأمر إذ ثمة من نجح في تلك المسافة الممتدة بين المصرف والبرلمان وما يتشعّب عن تلك المسافة من رئاسات ووزارات ولجان وإدارات، ثمة من نجح في إعادة تشكيل الواقع بما يتناسب مع الحس المأساوي للحياة، فالجميع في هذا البلد بمنأى عن الأمان الاجتماعي والمالي والكل على حذر شديد... وهل ثمة أكثر من الحذر ما قد يفضي إلى التنكّر للمأساة!!
إن الحذر حليف الملل في هذا السياق حيث ضروب الإستكانة للذل تمتد إلى ما لا نهاية.
ثمة احتكار للخطوات، للأصوات، للّفتات وللأنفاس كما شاهدتُّ الأمر فوق الدرب الممتد بين المصرف والبرلمان. ثمة إحاطة بل قبضة حديدية تتلاءم مع ذلك الدرب الجهنمي والذي قد شارك الجميع بشقّه: أمراء الحرب من أساتذة وبكاوات ورؤساء أحزاب، إلى جماعة الهوشة على السلطة من عونيين وغيرهم فإلى أرباب المصارف والمال، وفوق كل هؤلاء أصحاب الإنتصارات الإلهية ممن قد اختزنوا كمّاً هائلاً من الكرامة والعزة والإباء في بلد تختلط بجوفه مياه الشرب مع البراز (على الرغم من كل شارات النصر والأصابع المنتصبة) ويفور سطحه بكل ضروب الذل والمهانة!
رمى السيجارة من يده بسرعة ثم أخذ بالهرولة ما أن داخل سمعه ذكر الرقم الذي يجيز له ولوج جنة المصرف.
إن تلك المسافة الممتدة بين المصرف والبرلمان لا تستجيب فقط إلى وقع النعال بل تراها محل استجابة أكثر إلى نكران وقع المذلّة. لست أدري كيف يتأتى للإنسان أن يشكر الله لأن نصيبه من الذلّ كان أقل مما يتوقّع... "ما كتير نَطَرَتْ، شي ساعتين بس"، قال دركي لزميل له لحظة خروجه من المصرف!
يقول بريخت لا فرق بين إنشاء مصرف أو سرقته.
كنت أردد على نفسي مقولة بريخت هذه وأنا أتملّى في تلك الوجوه المنتظرة والحذرة والمنفلشة والمنكمشة فوق تلك المسافة الممتدة بين المصرف والبرلمان. ورحت أرسم داخل ذهني وجوه ناس هذا البرلمان منذ أن غادروا متاريسهم واستوطنوا هذا البرلمان عقب انتهاء ما يسمى بالحرب الأهلية.
كنت أفلّي ملامح هؤلاء وأقصّ على نفسي أخبارهم، تحالفاتهم، حروبهم، تهييج ناسهم من الأغبياء المساطيل في حملات انتخابهم لأتيقّن بغتة أن هؤلاء، هؤلاء أنفسهم، تبنّوا عبارة بريخت حرفياً حيال إنشاء المصارف وسرقتها.
خرج الستيني من المصرف متكدراً ليتناهى إليّ همسه في أذن صديقه: "منستاهل أكتر من هيك...".
تعليقات: