ماذا وراء الدعوات الصهيونية لاغلاق قناة \"الجزيرة\"؟


لن تتخلص إسرائيل من كابوس حرية الاعلام والتعبير، وهي التي لطالما رفضت كل أشكال هذه الحرية، وخصوصاً ما يتعلق بالتغطيات الإعلامية لممارساتها الهمجية وعنصريتها، وهل ما يتمثل أخيراً بإعلان الوزير الاسرائيلي إيتمار بن غفير عن مسعاه في اغلاق مكاتب قناة "الجزيرة" الموجودة في إسرائيل.

تحسب إسرائيل أن كل صوت مختلف هو بمثابة تهديد وجودي لها، ولا حل في مواجهة هذا الصوت الآخر إلا من خلال الانقضاض عليه بشتى الطرق التي لا تحتمل النجاة بتاتاً. ويمكن أن نلتمس هذا الرعب من خلال التعمّد في قتل الصحافيين، وأبرزهم الصحافية شيرين أبوعاقلة التي تم اغتيالها، عن قصد، أثناء تغطيتها الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين هذا العام.

وكانت "الجزيرة" قد رفعت قضية أبو عاقلة الى المحكمة الجنائية الدولية بدعم من منظمة "مراسلون بلا حدود"، بعدما بيّنت التحقيقات أن بو عاقلة قد قتلت عن سابق إصرار وتصميم برصاص إسرائيلي. وهذا ما سبب غضباً عارماً لدى الأوساط اليمينية مما دفع اسرائيل، التي رفضت تحويل القضية الى التحقيق الجنائي والتعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، الى التهديد بإقفال مكاتب "الجزيرة" ومنع بثها في إسرائيل.

هي ليست المرة الأولى التي تهدد فيها إسرائيل بإغلاق مكاتب "الجزيرة" بشكل مباشر في ظل ترددها الواضح بترجمة تهديها الفارغ بشكل فعلي، وذلك نظراً الى الإجراءات المعقدة على صعيد الجسم القانوني والإداري والأمني التي تصاحب تفعيل هذا القرار. ففي العام 2017، وبحركة خبيثة لاستغلال المقاطعة الخليجية، أعلن وزير الاعلام الإسرائيلي عن نيته منع "الجزيرة" من العمل في إسرائيل، ووصفها بالقناة التي تروج للتطرف وتنشر ثقافة "صحافة الإرهاب"، وذلك إبان مسعى "الجزيرة" المتواصل في فضح جرائم الجيش الإسرائيلي أثناء اقتحامه للمسجد الأقصى.

ولا يمكن أن نفهم الامتعاض الإسرائيلي بمعزل عن الحدث الأخير في كأس العالم لهذه السنة. فالحنق الإسرائيلي ليس أمراً مستجداً وانما نتيجة لتراكمات سياسية وخارجيّة أثبتت لإسرائيل أنّها ليس وحدها دائماً صاحبة القرار كما تعتقد.

وكانت واقعة الشيخ جراح في أيار/مايو 2021 قد فضحت مزاعم إسرائيل في تمجيدها للديمقراطية، إثر ضرب برج الجلاء في قطاع غزة الذي ضم عشرين مؤسسة إعلامية من بينها قناة "الجزيرة". فإسرائيل التي تزعم الديمقراطية الشائبة لا تنفك تستخدم آلتها الحربيّة لترهيب الاعلام بغية التعتيم على الحقيقة، غير أنّ مساعيها الضالة لم تنجح اليوم في تغييب الاعلام و"الجزيرة" تحديداً عن تغطية جرائمها.

والحال أنّ الانطباع التي تسعى إسرائيل الى تكريسه يتجاهل التمييز بين الميادين التي يحق للإعلام الولوج فيها دون أي رادع. فإذا كان الاعلام الإسرائيلي يُصنّف إعلاماً حراً في انتقاده السياسات الحكومية، ففي المقابل يشترط عليه التماهي مع أوامر القيادات العسكرية حين يتعلق الأمر بالمواضيع الأمنية.

فالمؤسسة العسكرية تتمتع بالحق في الرقابة على المقالات المطبوعة حول المسائل الأمنية، فقد تم اخضاع 1973 خبراً للتنقيح، بالإضافة الى منع 202 خبر، بحسب تقرير منشور لمنظمة "فريدوم هاوس" الأميركيّة.

ولا تتردد إسرائيل في الاستناد الى ألفاظ فضفاضة تسهل عليها إعادة تعريفها مثل "الأمن القومي" و"مكافحة الإرهاب" بهدف تأطير الحريات الإعلامية. وكانت إسرائيل قد حجبت البطاقات الصحافية عن الصحافيين لمنعهم من دخول إسرائيل بحجة اعتبارات أمنية، بحسب ما أشار التقرير نفسه. هذه الحجة الأمنية التي لازمت إسرائيل في كل ممارستها القمعية قد استخدمت من قبلها أيضاً لتبرر القتل والقمع والمجازر، وتدعم ممارساتها بغرض عرقلة عمل الصحافيين الفلسطينيين.

وتمتلك إسرائيل تاريخاً بارزاً في عمليات الالتفاف على القانون وسعيها في توجيه الاعلام نحو ما يخدم مصلحتها. ففي السنوات الماضية، زاوج رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو بين مهمتين رسميتين عبر تعيين نفسه في منصب رئيس الوزراء ووزير الاتصالات في آن واحد. وكانت نتنياهو قد أجبر لاحقًا على الاستقالة بعد التحقيقات التي أظهرت دوره في تمرير صفقات مالية للإعلام الخاص مقابل تلميع صورته.

سُطرت في حق إسرائيل العديد من الدعاوى بقصد مقاضاتها في "جرائم حرب" وأبرز الدعاوى المقدمة هي تلك التي عمدت الى رفعها منظمة "مراسلون بلا حدود" حول إطلاق الجيش الاسرائيلي الرصاص على عشرين صحافياً من بينهم اثنان لقيا مصرعهما.

غير أنّ اللجوء للمحاكمة عن طريق "المحكمة الجنائية" كملاذ أخير، لم يلجم إسرائيل عن التعامل مع الصحافيين وكأنهم فريسة سهلة. ولهذا، إن الاستهداف المنظم ضد الصحافيين وقتلهم المخطط له كافٍ لكي يكون معياراً جوهرياً يدلّ على غياب حرية التعبير في إسرائيل بشكل كامل مهما حاولت التقارير أو المزاعم الداخلية اثبات عكس ذلك.

أمام كل هذه الوقائع، تأتي الدعوة لاغلاق "الجزيرة" بمثابة تتويج لمسار عنصري تنتهجه سلطات الاحتلال بمعزل عن أسماء وصفات المسؤولين في دولة الاحتلال، فما يجري هو عملية تقسيم أدوار في ما بينهم، في محاولة لتفريق المتطرف عن سواه، وهي محاولة فاشلة.


تعليقات: