75 عاماً على نهاية تجربتها السينمائية.. أم كلثوم الممثلة

فيلم وداد
فيلم وداد


في 15 كانون الأول/ديسمبر1947، طالع الجمهور وجه السيدة أم كلثوم للمرة الأخيرة على شاشة السينما حينما عُرض فيلم "فاطمة" من بطولتها أمام أنور وجدي وإخراج أحمد بدر خان، لتودّع كوكب الشرق، جمهور السينما، بعد تجربة قصيرة أثمرت ستة أفلام فقط في أحد عشر عاما، واليوم وبعد مرور 75 عاماً على توقّف أم كلثوم عن التمثيل، هل يستحق مشوارها السينمائي الوقوف أمامه بنظرة تأملية ناقدة؟

الإجابة نعم، رغم الفارق الكبير بين حجم التجربتين (الغناء والتمثيل) وعمر المشوارين ونتائجهما الفنية والأثر الذي تركه كل منهما.. نعم لأن أفلام أم كلثوم الستة التي قدمتها بين العامين 1936 و1947 تمثّل صفحة مهمة في تاريخ السينما المصرية في السنوات العشرين الأولى من عمرها. يكفيها أنها كانت بطلة فيلم "وداد"، أول أفلام استديو مصر، ثم بطلة أول أفلام المخرج الرائد أحمد بدر خان "نشيد الأمل". نعم، لأن أفلامها الستة خطَت بالفيلم الغنائي خطوات مهمة للأمام. نعم، لأن أم كلثوم هي التي قدمت شاعر الشباب أحمد رامي ككاتب سينمائي، فكسبت السينما فناناً ذا شاعرية خاصة. نعم، لأنها صاحبة المحاولة الأولى والأخيرة لتعريب أوبرا عايدة. وأخيراً، نعم، لأن أم كلثوم الممثلة هي في النهاية أم كلثوم المطربة، وتجربتها السينمائية بما حوته من عشرات الأغنيات هي ابنة تجربتها العريضة في الغناء، ولذلك تستحق أم كلثوم بكل تأكيد هذه النظرة المتأنية لمشوارها السينمائي.

مع انتصاف عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت أم كلثوم قد أصبحت الاسم الأشهر والأهم في عالم الغناء، ليس فقط في مصر وحدها، وإنما في أرجاء العالم العربي، واستنّت لنفسها سنّة باتت من طقوسها المعتادة، وهي الغناء في الخميس الأول من كل شهر في حفلة عامة تبثها الإذاعة المصرية ويلتف حولها المواطنون العرب من المحيط إلى الخليج، في ظاهرة، لم تتكرر مع غير هذه الفنانة الكبيرة. أما في السينما، فقد بدأت أم كلثوم مشوارها بفيلم "وداد" من إخراج الألماني فريتز كرامب العام 1936، وهو الإنتاج الأول لاستديو مصر، أهم صرح سينمائي عرفته منطقة الشرق الأوسط، وأحد مشاريع الاقتصادي المصري الأشهر طلعت حرب، ثم أتبعته بخمسة أفلام أخرى كانت كلها من إخراج أحمد بدر خان، ويمكن تأمل مسيرة أم كلثوم في شاشة السينما في ضوء الملحوظات التالية:

أولاً: احتاجت أم كلثوم تسع سنوات كاملة منذ بداية مشوار الفيلم الروائي الطويل، في مصر العام 1927، قبل أن تقرر خوض تجربة العمل السينمائي. وربما كان هذا لأنها، حتى بدايات الثلاثينيات، لم تكن قد أمّنت دعائم مكانتها الغنائية، في حين لم تكن السينما في مصر قد عرفت شريط الصوت، وهو ما تحقّق في ربيع 1932، فضلاً عن طبيعتها المتردّدة أمام أي جديد، ما دعاها للتريث قبل الإقدام على خوض تجربة العمل السينمائي والنظر إلى تجارب ستة أصوات غنائية سبقتها إلى الشاشة الكبيرة، أهمها بالطبع منافسها الأول المطرب محمد عبد الوهاب، الذي قدّم قبل فيلم "وداد"، فيلميه الأولين "الوردة البيضاء" و"دموع الحب" (1933، 1935) من إخراج محمد كريم، فإذا ما اطمأنت أم كلثوم لنجاح اختراع السينما ومدى إفادتها منه وافقت على القيام ببطولتها السينمائية الأولى العام 1936.

ثانياً: أدركت أم كلثوم أن جمهورها لن يدخل قاعات العرض السينمائي إلا للاستماع إلى أغنياتها، فكانت من الذكاء بأن اختارت لأفلامها قصصاً تلائم طبيعتها كمطربة في المقام الأول. فقدمت من التاريخ القديم حياة ثلاث من الجواري عُرفن بجمال الصوت هن: المملوكية وداد، والعباسية دنانير، والأموية سلامة، وظهرت في فيلمين آخرين هما "نشيد الأمل" و"عايدة" كمطربة معاصرة، بينما لعبت في فيلمها الأخير "فاطمة" 1947 دور ممرّضة عادية لكنها تتمتع بجمال الصوت.

ثالثاً: كانت هذه الأفلام الستة فرصة سانحة كي تقدم أم كلثوم رصيدها المهمّ من الغناء القصير والمتنوع القائم على مواقف درامية، بالتوازي مع قصائدها ومطولاتها الغنائية بعيداً من شاشة السينما. وهي الأغنيات ذات الإيقاع السريع نسبياً الذي كسبت به كوكب الشرق جمهوراً إضافياً من شباب المستمعين لم يكن يتحمّس كثيراً لمطولاتها الغنائية التي تقدمها في الحفلات العامّة كل شهر.

رابعاً: بعد فيلمها الأخير "فاطمة" 1947، بدأت أم كلثوم تعاني مشاكل صحية في العينين وفي الغدة الدرقية، الأمر الذي كان من الصعب معه المضي في مشوارها السينمائي وتعريض نفسها للإجهاد وعينيها للإضاءة المستمرة، فضلاً عن أنها كانت في ذلك الوقت قد قاربت الخمسين ولم يعد مناسباً لها أن تقدم أدوار الفتاة الأولى، فآثرت الابتعاد عن التمثيل السينمائي مكتفية بما قدمته على شاشتها، فقط ظهر صوتها كمطربة في فيلم "رابعة العدوية" للمخرج عاطف سالم العام 1963.

لكن، هل كانت أم كلثوم تملك حقاً قدرات تمثيلية لافتة؟

الشيء الواضح أنها لم تكن أفضل حالاً من أسماء مثل محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، أولئك الذين دخلوا مجال السينما من باب جمال أصواتهم، وإن شاركت بعض هؤلاء في حضور الإحساس الذي عوّض جانباً من القصور في القدرات التمثيلية. لكن، مهما يكن من أمر مكانة أم كلثوم الممثلة، فإن أفلامها الستة أتاحت لنا فرصة الاستمتاع بـ45 أغنية قصيرة ومتنوعة، ربما كانت لا تستطيع تقديمها في حفلاتها العامة، بالإضافة إلى محاولتها الجريئة والمتفردة في تعريب أوبرا عايدة في إطار فيلمها الشهير الذي حمل الاسم نفسه العام 1942 من إخراج أحمد بدر خان. وحققت هذه الأفلام الستة نجاحاً لافتاً بمقاييس زمانها، ليس فقط على المستوى المحلي، وإنما كذلك على صعيد الوطن العربي، ما ساهم في زيادة شعبية كوكب الشرق كمطربة وتربعها على عرش الغناء العربي.

ومنذ العام 1947، تفرغت أم كلثوم لنشاطها الغنائي الذي حققت فيه ما لم تحققه مطربة من قبل. بل، ومع اندلاع ثورة تموز/يوليو 1952، وطدت السيدة الذكية علاقتها بمؤسسة الرئاسة في مصر حتى أصبحت أكبر من مجرد مطربة حين لعبت دوراً سياسياً مهماً في أعقاب حرب حزيران/يونيو1967 بدعم المجهود الحربي من خلال مجموعة من الحفلات داخل مصر وخارجها، الأمر الذي دفع الرئيس جمال عبد الناصر لمنحها جواز سفر دبلوماسي عوملت بموجبه كشخصية رسمية في الدولة. ومع بدايات السبعينيات، بدأت الأزمات الصحية تتوالى على كوكب الشرق، حتى توقفت عن الغناء الحيّ في يناير 1973، وبعد ذلك بأشهر توقفت عن الغناء تماماً عقب تسجيل آخر أغنياتها وهي "حكم علينا الهوى" من ألحان بليغ حمدي، حتى رحلت عن عالمنا في الثالث من شباط/ فبراير 1975، عن 77 عاماً، وودعتها الشعوب العربية في جنازة مهيبة شارك فيها مئات الآلاف في مشهد كان جديداً تماماً على الحياة الفنية في مصر.

فاطمة
فاطمة




تعليقات: