بلغ اعتكاف نحو ثلثي القضاة مرحلة خطيرة (ريشار سمور)
في جولة قبل أيام داخل إحدى قصور العدل، يظهر جليًا حجم الانهيار الذي أصاب مرفق العدالة، وهو يلفظ أنفاسه مع نهاية العام الحالي: موقوفون بالعشرات أمام مكاتب بعض القضاة، الذين يحضرون مرة أو مرتين على الأكثر لإنهاء ملفات ملحة. محامون يتذمرون من الانتظار لساعات طويلة، ومن تعطيل ملفاتهم وقذفها من أسبوع لآخر. هرج ومرج وفوضى وتراشق لنظرات الاستياء والغضب، قد تبلغ حدّ التمتمة همسًا بالشتائم، في قصور تنقطع عنها الكهرباء، وتشح منها المواد الأولية ويغيب عنها العاملون والموظفون.
هذا المشهد، أصبح مألوفًا في قصور العدل التي تختزل واقع الدولة ومؤسساتها، ويترقب لبنان دخول العام 2023 مع استمرار أطول اعتكاف قضائي شهده، من دون حلول بالأفق. وقد بلغ الانسداد درجة فتح معركة على جبهتي المحامين والقضاة، استدعت بعد ظهر يوم الخميس عقد اجتماع طارئ لمجلس القضاء الأعلى.
تصعيد المحامين
وفي سابقة أولى من نوعها منذ بدء اعتكاف أكثر من ثلثي قضاة لبنان (من أصل نحو 570 قاضيًا) قبل نحو 5 أشهر، عقد مجلسا نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس والشمال اجتماعًا الأربعاء في بيت المحامي برئاسة النقيبين ناضر كسبار وماري تريز القوال، ووجها فيه دعوة لوقف رواتب القضاة على قاعدة "لا عمل من دون أجر". ومما جاء في بيانهما: "إن مجلس القضاء الأعلى هو الذي يمثل القضاء بحسب القانون وهو وحده صاحب السلطة بالتكلم باسم السادة القضاة الذين عليهم الالتزام دائمًا بموجب التحفظ". ودعيا القضاة المعتكفين إلى العودة عن اعتكافهم أو تقديم استقالاتهم. كما طالبا مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة بحقهم".
وهذا التصعيد من نقابتي المحامين، والذي قد يرتبط بضرب المصالح المادية للمحامين وكذلك بمصالح المتقاضين، أثار استياء كبيرًا بصفوف القضاة. ودفع نادي القضاة إلى إعادة نشر فيديو يشرح مبادئ وقانونية "موجب التحفظ". وقال في بيانه الخميس: "نعيد نشره لعله يساهم في توضيح الأمور لمن جهلَ أو تجاهل معناه الحقيقي، مع الإشارة إلى أن تحديد ماهية الالتزامات الواجب على القضاة التقيّد بها، تبقى أمورًا خاصة بالسلطة القضائية لا يعود لأي سلطة أخرى أو مرجع آخر أن "يؤكد" عليها أو يُذكر القضاة بها، وذلك عملًا بمبدأ فصل السلطات من جهة ومبدأ عدم التدخل بأمور داخلية للسلطة القضائية من جهة أخرى".
استياء قضائي
وفيما بلغ اعتكاف نحو ثلثي القضاة مرحلة خطيرة، تترافق مع شلل شبه تام بالمحاكم وقصور العدل، سبق أن أشارت "المدن" في تقرير سابق عن تصاعد وتيرة استقالات القضاة والاجازات المفتوحة بلا راتب.
وما فاقم إصرار القضاة على اعتكافهم، هو أن موازنة 2022 أثارت استياءً عارمًا في أوساط القضاة، خصوصًا أنها ترصد في ميزانيتها 0.49% فقط لوزارة العدل ومعها مختلف مرافق السلك القضائي ورواتب القضاة، مقابل الاستمرار بسياسة السلف، التي يرفضها القضاة، وفق ما يقول مصدر مقرب منهم لـ"المدن". وبعد سلفة الـ35 مليار ليرة لصندوق التعاضد، تفيد المعلومات عن تحويل سلفة جديدة بقيمة نحو 20 مليار ليرة، تم تسديد دفعة منها وتكفي لدفعة ثانية فقط، كنوع من المساعدة للقضاة، وتوزع على نحو 950 قاضيًا بين حاليين ومتقاعدين، وهي تشمل ضمنًا مخصصات التعليم والاستشفاء.
ويقول مصدر قضائي أنهم تلقوا موقف المحامين بصدمة كبيرة، و"كنا ننتظر منهم مساندة ودعمًا لأنهم أكثر العارفين بسوء أوضاعنا، بدل هذا الموقف الانقلابي الذي يحدث شرخًا كبيرًا لم نعهده في الجسم القضائي بين المحامين والقضاة". ويضيف المرجع: "العودة عن الاعتكاف لم يعد خيارًا، إذ لا أمكانية للعمل أصلًا ولا قدرة عليه، والرواتب لا تكفي لبدل التنقل. كما يعرف المحامون والجميع أنه بالرغم من كل سوء أوضاعنا واستهتار السلطة السياسية بمطالبنا المحقة، لا نترك الملفات الملحة، بل ننجز كل ما له علاقة بالموقوفين والأحداث والقضايا المستعجلة".
مجلس القضاء
ومساء الخميس، وبعد اجتماع استمر لساعات، صدر عن مجلس القضاء الأعلى بيان ألمح إلى استنكار موقف نقابتي المحامين. وقال: "إن مجلس القضاء إرادةً منه في إيضاح الحقائق، من دون الدخول في سجالات تُفقِد مطلقيها ما يسعون إليه..، ونأيًا بنفسه عن لغة الاتهامات والتهديدات، وعن الرد على تصريحات وأقوال غير مبررة طاولت السلطة القضائية والقضاة، يؤكد الآتي:
إنّ توقف القضاة القسري عن العمل، "لم يكن خيارًا، بل واقعًا مفروضًا عليهم، في ظلّ عدم إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وتدهور أوضاعهم المعيشية والمادية، التي أمست غير مقبولة بتاتاً، بالإضافة الى تراجع التقديمات الصحية والتعليمية، وافتقاد المحاكم إلى المقوّمات التجهيزية الأولية والضرورية". وإن انتهاء توقف القضاة القسري عن العمل، مرتبط بجملة أمورٍ، أولها الإرادة الواضحة في إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وتصحيح الوضع المادي للقضاة بالحدّ المفترض والثابت، وتأمين المقوّمات التجهيزية الضرورية لتأمين سَير العمل في المحاكم.
إنه ورغم عدم تحقق الأمور المذكورة، "فإن العمل في المحاكم لم يتوقف نهائيًا، لا بل عمد المجلس إلى الطلب من القضاة تسيير العمل القضائي للبت في القضايا الإنسانية والضرورية والملحة، ضمن الإمكانات المتاحة". ومما قاله أيضًا: "إن المجلس لا يسمح بأي تدخلٍ في القضاء، وبأي تعرض للقضاة، ويعتبر أن مثل هذا الأمر غير مقبول ومرفوض ومتعارض مع ما يمثلّه القضاء من سلطة دستورية مستقلة".
تعليقات: