القضاء الأميركي يحاصر المصارف اللبنانية.. والكابيتال كونترول غير دستوري

ينطوي قانون الكابيتال كونترول المطروح على ثغرات دستوريّة واضحة وقاتلة (Getty)
ينطوي قانون الكابيتال كونترول المطروح على ثغرات دستوريّة واضحة وقاتلة (Getty)


نهار الخميس الماضي، أصدرت محكمة استئناف أميركيّة قرارًا قضى بتمكين محاكم الولايات المتحدة من النظر بالقضايا المرفوعة ضد المصارف اللبنانيّة، على خلفيّة امتناعها عن سداد الودائع الموجودة لديها. وبذلك، تكون المحكمة قد نقضت حكمًا سابقًا صدر عن محكمة ذات درجة أدنى، قضى بإعطاء المحاكم اللبنانيّة حصريّة الاختصاص في البت بهذه الدعاوى. مع الإشارة إلى أنّ هذا الحكم جاء على خلفيّة دعوى مرفوعة من قبل ثلاثة أفراد من عائلة رعد، ضد بنك عودة اللبناني، لاستعادة ودائع تصل قيمتها لنحو 17 مليون دولار أميركي.

باختصار، سيمثّل هذا الحكم منعطفًا كبيرًا في مسار مقاضاة المصارف اللبنانيّة في الخارج، إذ سيفتح باب النظر في هذا النوع من القضايا لدى القضاء الأميركي، بوصفه صاحب اختصاص وصلاحيّة، بعد أن فتحت دعاوى سابقة هذا الباب في أروقة المحاكم البريطانيّة والفرنسيّة. ولعل حساسيّة هذا الحكم بالتحديد تكمن في استحواذ المصارف والأسواق الأميركيّة على حصّة الأسد من الحسابات المُراسِلة واستثمارات أسواق المال التي تملكها المصارف اللبنانيّة، ما يضع كل هذه الموجودات تحت طائلة الحجز في حال عدم الامتثال لأحكام محاكم الولايات المتحدة الأميركيّة.

الكابيتال كونترول لن ينقذ المصارف

كل هذه التطوّرات تعيد تسليط الضوء على مشروع قانون الكابيتال كونترول، بوصفه الغطاء التشريعي الذي تنتظره معظم المصارف لحمايتها من الدعاوى في المحاكم الأجنبيّة. لكن وبخلاف ما تراهن عليه المصارف اللبنانيّة، لا يوجد حتّى اللحظة ما يشير إلى أنّ هذا القانون سيكون بالفعل حبل خلاص المصارف الذي يحميها من هذا الدعاوى. فالمحاكم الأجنبيّة، وإن أخذت بالاعتبار التشريعات المحليّة السابقة والمستجدة عند النظر في الدعاوى، إلا أنّها ستأخذ بالاعتبار أيضًا مدى دستوريّة هذه التشريعات، وفي ضوء الاجتهادات المحليّة السابقة. مع الإشارة إلى أنّ أحكام الدستور اللبناني تتجاوز بمشروعيّتها أي تشريع يمكن أن يقرّه المجلس النيابي اليوم، لتنظيم علاقة المودعين مع المصارف.

ومن الناحية العمليّة، بات من الأكيد أنّ مشروع قانون الكابيتال كونترول المطروح اليوم، وبصيغته الراهنة، ينطوي على ثغرات دستوريّة واضحة وقاتلة، وخصوصًا في الشق المتعلّق بتطبيقه على الدعاوى المرفوعة أساسًا لدى المحاكم المحليّة والأجنبيّة. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن لا تأخذ المحاكم الأجنبيّة بالاعتبار هذا القانون عند إقراره، كما من المتوقّع أن يكون القانون نفسه عرضة للطعن أمام المجلس الدستوري.

الثغرات الدستوريّة في مشروع قانون الكابيتال كونترول

ينص مشروع القانون المطروح أمام المجلس النيابي اليوم على سريانه على "جميع الإجراءات القضائية مهما كان نوعها كما والدعاوى المقدمة أو التي ستقدم بوجه المصارف والمؤسسات المالية أو المنبثقة عنها"، والمتعلقة "بالسحوبات والتحاويل وكل ما نص عليها هذا القانون إن لم يكن قد صدر فيها قرار مبرم بتاريخ نفاذه". وبهذا المعنى، سيمتد مفعول القانون ليطال جميع الدعاوى التي جرى رفعها قبل إقرار القانون، بل وحتّى الدعاوى التي صدر فيها حكم قابل للاستئناف أو الطعن، أمام المحاكم المحليّة أو الأجنبيّة. كما سيشمل مفعوله حكمًا جميع المخالفات التي جرت قبل إقرار القانون، والتي يمكن مقاضاة المصارف على أساسها.

هذه الثغرات الدستوريّة، أشار إليها الأستاذ الجامعي في القانون العام، علي مراد، في حديث مع "المدن"، مذكرًا بأنّه "سبق للمجلس الدستوري في القرار رقم 5/2000 بتاريخ 27/06/2000 أن ثبّت مجموعة من المبادئ ذات القيمة الدستوريّة، وأوّلها إعادة التأكيد على مبدأ استقلال القضاء، وفقًا لأحكام المادّة 20 من الدستور اللبناني، ومبدأ الفصل بين السلطات، وتحديدًا لجهة عدم جواز رفع يد القضاء عن قضيّة عالقة أمامه بموجب قانون أو عمل إداري. وعلى هذا الأساس، أي قانون يؤدّي إلى كف يد القضاء أو رفع يده عن قضيّة عالقة أمامه هو انتهاك لمبدأين دستوريين في الوقت نفسه: مبدأ استقلاليّة القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات".

يومها، وحسب مراد، صدر قرار المجلس الدستوري على خلفيّة طعن بقانون عدّل المادّة 64 من نظام مجلس شورى الدولة، حيث نصّ التعديل على منع مجلس شورى الدولة من النظر في المراجعات المتعلّقة بقضايا التأديب التي ينظر فيها مجلس القضاء الأعلى، كما نصّ التعديل على تطبيق هذه الفقرة "على المراجعات التي لم يصدر بها حكم مبرم" (وهي عبارة مشابهة تمامًا لتلك الواردة في مشروع قانون الكابيتال كونترول اليوم).

ولذلك، اعتبر المجلس الدستوري يومها أن هذا التشريع يشكّل خرقًا لمبدأ الفصل بين السلطات، إذ لا يجوز للمشرّع أن يجري رقابته على قرارات القضاء، أو أن يوجّه إليه التعليمات، ولاسيما بفعول رجعي. وعلى هذا الأساس، قرّر المجلس الدستوري إبطال هذه الفقرة، لتناقضها مع أحكام الدستور، الذي يمنع تدخّل المشرّع في القضايا المقامة أساسًا أمام القضاء. مع الإشارة إلى أنّ قرار المجلس الدستوري ساوى ما بين القضاء العدلي والقضاء الإداري في هذا التوجّه، ما يعني أنّ الاجتهاد الذي صدر يومها عن المجلس الدستوري ينطبق على القضايا المرفوعة ضد المصارف لدى المحاكم اليوم.

باختصار، نص المادّة الواردة في مشروع قانون الكابيتال كونترول اليوم، متعارض مع اجتهاد سابق للمجلس الدستوري، لا بل مشابه تمامًا لمادّة تم إبطالها من قبل المجلس لعدم دستوريّتها. ولهذا السبب، وفي حال إقرار مشروع القانون بصيغته الراهنة، يشير مراد إلى أنّ القانون سيكون عرضة للطعن أمام المجلس الدستوري، إلا أن ذلك سيستلزم حكمًا تأمين تواقيع 10 نوّاب لتقديم الطعن خلال مهلة 15 يومًا بعد نشره في الجريدة الرسميّة.


مواد الكابيتال كونترول قابلة للطعن

بالعودة إلى تفاصيل نص قرار المجلس الدستوري الذي يشير إليه مراد، يبدو من الواضح أنّ رأي المجلس الدستوري الذي أبطل جزءاً من تعديلات "نظام مجلس شورى الدولة"، ينطبق تمامًا على المادّة التي تسعى المصارف إلى إبقائها ضمن مشروع قانون الكابيتال كونترول. إذ نصّ رأي المجلس يومها على أنّ "هذا النص ينطوي على مفعول رجعي يؤدّي إلى رفع يد مجلس شورى الدولة عن النظر في مراجعات النقض التي قدمت إليه من قبل القضاة العدليين، الذين صدرت بحقهم قرارات تأديبيّة، ويمنع على القضاء إصدار الأحكام في هذه المراجعات". وبما أن هذه الفقرة "تكون مخالفة إذًا لمبدأ الفصل بين السلطات ولمبدأ استقلال القضاء، يقتضي بالتالي إبطالها".

لكل هذه الأسباب، من الأكيد أن أي طعن بقانون الكابيتال كونترول بعد إقراره، سيحمل فرصًا كبيرة لإبطال المواد التي تعطيه مفعولًا رجعيًّا، على الدعاوى التي لم يتم البت بها بعد، أو تلك التي صدرت فيها قرارات قابلة للاستئناف. وبمجرّد الطعن بالقانون على هذا النحو، وتحديدًا في ما يتعلّق بالمادّة التي تعطيه النفاذ بخصوص الدعاوى المقامة، سيفقد قيمته كغطاء يحمي المصارف من الدعاوى المقامة حاليًّا في الخارج.

تعليقات: