بعلبك-الهرمل: إحصاءات مفزعة ووقائع جرائم وسلاح متفلت

لا أرقام واضحة لمعدلات الجرائم الجنائية في منطقة بعلبك-الهرمل (Getty)
لا أرقام واضحة لمعدلات الجرائم الجنائية في منطقة بعلبك-الهرمل (Getty)


ليس وحده حكم العشائر والسّلاح المتفلت ما جعل من سمعة البقاع الشمالي مفسودة بأخبار الجريمة بمختلف أشكالها دوريًّا. وليس وحده البؤس العمومي والاستسلام والتسليم لحتمية الواقع الهزلي لحدٍّ ما، جعلا حياة البقاعي رخيصة، أكان في الإعلام أم عند دولته وصولاً لمجتمعه. وقد تكون أكثر النظريات منطقيةً على الصعيدين السوسيولوجي والسياسي لتفسير هذا الشرخ بين الواقع المُعاش المزدحم بالقتلى وضحايا الجرائم المتفرقة، وبين التمثيلات الإعلامية والرسمية والأمنية، المحدودة والمنحسرة في إطار المُعاد والمألوف عن هذه المنطقة، هي أن حياة البقاعي باتت جحيماً يومياً.

وليس في هذا النبأ أي مبالغة، ففي غضون الأشهر القليلة الماضية، سجلت عشرات جرائم القتل بنيات جرمية مختلفة في قضاء بعلبك وحده. هذا ناهيك عن عشرات أخرى من الجنايات والجنح المتفاوتة والتّي تمكنت القوى الأمنية من ضبطها وتوثيقها. وبالرغم من عدم توافر أرقام رسمية لهذه الجرائم إلا أن خسائرها البشرية والمادية جسيمة. لكن في المقابل ترى تمثيلاً إعلاميًا ضئيلاً مصحوبًا بإنكار الجهات الرسمية وتغاضيها الفضائحي بحجج أقرب ما تكون للواهية منها للمعقول.


عين الخطر الأمني

لا شكّ أن الوضع الأمني في مختلف المحافظات اللبنانية لا يختلف بنِسبه عن نظيره البقاعي، إلا أنه يتفاوت بصورة جذرية في مسبباته وتاريخه ومحاولات ضبطه من قبل الأمن والقضاء اللبنانيين. ومنذ بداية الانهيار الأشرس في تاريخ لبنان، سُجل ارتفاع مُطرد ومخيف في معدلات الجرائم الجنائية بين عامي 2019 و2022، ذلك على امتداد الأراضي اللبنانية. وقد دلت المؤشرات الأمنية الصادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي عن تفاوت واضح في هذه النسب التّي تأرجحت صعودًا ونزولاً في السنوات القليلة الماضية، لتستقر بعضها على وتيرة تصاعدية مطردة كجرائم القتل، السّرقة الموصوفة، الخطف لقاء فدية والسّلب. والتّي انخفض معدلها لشهر تشرين الثاني 2022 عن نظيره في 2021 بعضها كأعداد القتلى (16.9 بالمئة) والسرقات الموصوفة (19.39). ويُفسر الباحث في الشركة الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، في حديثه مع "المدن"، هذا الانخفاض أنّه "نتيجة للانهيار، وفي أول سنة منه، ارتفعت معدلات الجرائم الجنائية، لأن بيوت المواطنين باتت مركزًا لإيداع أموالهم وممتلكاتهم، لا البنوك. فصارت هدفًا أسهل لسرقتها. لكن مع التقدم في سنوات الانهيار بات المواطنون أشدّ حذرًا وخبرة في حماية ممتلكاتهم وأنفسهم. وهذه الأرقام المرتفعة أصلاً مرتبطة بكافة أشكال الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي".

يُذكر أن هذه الأرقام في الجدول أعلاه هي فقط المصرح عنها من قبل القوى الأمنية والتّي ضبطت الحالات فيها بعد التبليغ عنها. وقد تحتمل هذه المعدلات ارتفاعًا إذا ما أضيفت الحالات التّي لم يبلغ عنها أو لم تضبطها القوى الأمنية بعد. ولما كانت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي هي الجهة الأولية لتوثيق هذه المعدلات، فإن تخوفًا كبيرًا ينبثق في إطار إصدار الأرقام الفعلية أو حتّى التدني المطرد في التبليغات والعمليات الأمنية، التّي هي مؤشر واضح بحدّ ذاته لشلل هذه المؤسسة الذي واكب الانهيار بوتيرة أسرع من باقي المؤسسات الأمنية. وقد لوحظ في هذه السنة تحسن طفيف في معدلات الجرائم الجنائية وبنسب ضئيلة وفق الجدول أدناه:


أما في محافظة بعلبك -الهرمل فلا أرقام واضحة لمعدلات الجرائم الجنائية فيها. ففي هذه المنطقة التّي لم يلتقط فيها السكان أنفاسهم طيلة العام الحالي من مسلسل الاشتباكات الأمنية المسلحة وجرائم القتل المتفرقة، ناهيك عن حوادث السرقة والخطف وسلب السيارات، مصحوبةً بأزمات استفحلت بصورة استثنائية في المنطقة، كان من الصعب إحصائها وربطها بأرقام دقيقة، والأصعب معرفة النوايا الجرمية في كل واحدةٍ منها، إلا أن الواضح والمسلم به أنها ارتفعت في غضون هذه السنة، وتحديدًا في مطلع النصف الثاني منها، لتصل أحيانًا لعدة حوادث جرمية في غضون اليوم الواحد! وفيما يلي سنستعرض آخر الحوادث الجنائية التّي حصلت في الشهرين الماضيين كنماذج جرمية باتت شبه مألوفة ونمطية في هذه المنطقة المنكوبة.


خطف لقاء فدية وجرائم القتل

بتاريخ 22 تشرين الأول من العام الجاري أقدم مجهولون يستقلون سيارتين من دون لوحات على خطف طفلين من الجنسية السورية هما: غالب (15 سنة) ومهند ماجد عروب (13 سنة)، من أمام محل والدهما الذي يبيع الملابس الأوروبية المستعملة في حيّ الصلح المحاذي للشراونة أو حيّ الجعافرة، ليعود ويتلقى الأخير اتصالاً من الخاطفين الذين طالبوا بدفع فدية مالية تبلغ قيمتها 300 ألف دولار أميركي، وهددوا ببيع أعضاء الطفلين بحال عدم الدفع. فيما أُشيعت معلومات أن سبب خطفهما يعود لكون الوالد قد استلف سابقًا من الخاطفين وعدّة جهات لا قانونية مبلغًا ماليًا. وبعد أن قام أهالي بعلبك بتظاهرة احتجاجية طالبوا فيها الجهات الأمنية بوضع حدّ لهذه الجرائم وإنقاذ الطفلين، قامت وحدة من الجيش بتاريخ 28 تشرين الثاني من العام الجاري بمداهمة منازل المطلوبين ومشتبه بهم في بعلبك، في حيّ الشراونة تحديدًا. فيما أفادت المصادر الأمنية لـ"المدن" أن الطفلين موجودان اليوم في أحد القرى السورية على الحدود اللبنانية، ليظل مصيرهما مجهولاً لحدّ الآن، وتحاول القوى الأمنية الوصول إليهما بطريقة تضمن سلامة حياتهما. وقد تواصلت "المدن" مع حسين مشيك، خال الطفلين الذي أكدّ أن لا جديد في القضية، ولا يزال الطفلان مختطفين، هذا فيما تُعد جرائم الخطف لقاء فدية من أكثر الجرائم انتشارًا في منطقة بعلبك- الهرمل، وقد تسارعت وتيرتها في السنة الماضية وتضاعفت معدلاتها لتصل حدّ 284 بالمئة مقارنةً بالعام الماضي.

ومنذ حوالى الأسبوعين هزّت قضية مقتل المواطنة ندى شبشول (40 عامًا، لبنانية)، مدينة بعلبك وأثارت ضجة واسعة على امتداد الأراضي اللبنانية. وبالرغم من ضبابية المعلومات الأولية والتضارب في ملابسات الجريمة حتّى اليوم، لا تزال الجريمة المروعة التّي راحت ضحيتها شبشول مجهولة التفاصيل. فبين شائعات أثيرت مفادها أن زوج أخت الضحية من آل المظلوم قام بقتلها، وشائعات أخرى رجحت قتل الزوج لزوجته، أشارت مصادر "المدن" الأمنية أن التحقيقات تتجه اليوم نحو زوج أخت الضحية المشتبه بسرقتها وقتلها. وحاولت "المدن" التواصل مع عدد من المقربين من العائلة الذين لم يعلنوا عن أي معطى جديد بانتظار نتائج التحقيقات. وجاءت قضية شبشول بالتوازي مع أربع قضايا قتل في غضون الشهرين السّابقين.


السّرقة الموصوفة وسلب السيارات

تاريخيًا، تعاني منطقة بعلبك-الهرمل من السرقات الموصوفة الدورية، بدءًا من سرقة المنازل في القرى والبلدات، والتّي لم يعد السكان يبلغون عنها بسبب إثبات الجهات المولجة دائمًا عجزها عن توقيف الجناة، أو الحدّ من هذه الظاهرة المنتشرة بصورة واسعة. بالمقابل راجت سرقة الممتلكات العامة والتّي تمثلت بالأسلاك الكهربائية وتجهيزات الطاقة الشمسية وأغطية الصرف الصحي والتعديات العشوائية على المشاعات، وصل حدّ تظاهر السّكان احتجاجًا على هذه الظاهرة. لكن أكثر السرقات تمثلت بسرقة الدراجات النارية والسيارات. وفي هذا السّياق يشير مصدر أمني رفيع المستوى في حديثه مع "المدن"، إلى أن القوى الأمنية تمكنت في هذا العام من تدارك خطر السرقات وسلب الآليات، عبر تعزيز التوعية لهذه الجرائم عند المواطنين، وكذلك عبر وضع خطط أمنية لضبط الجناة في بعلبك خصوصًا، حيث تكثر هذه الجرائم بصورة شبه يومية. إلا أن المعضلة الأكبر تكمن في كون غالبية ضحايا هذه السرقات لا يقومون بالتبليغ، ويعمدون لتسوية مشاكلهم فيما بينهم، مما يؤدي لسهولة إفلات الكثير من الجناة من العقاب. وقد أكدّ المصدر أن غالبية التوقيفات للجناة والمشتبه بهم هم من فئة الشباب.

في حين يبدو أن "خزان الدم"، كما توصف المنطقة في الأدبيات السياسية المهيمنة، بات ينضح بالتفلت والتسيب العام، لا يبدو أن الجهات المولجة من أمن وقضاء، أو حتّى قوى الأمر الواقع من ثنائي أمل وحزب الله وعشائر، تضمر أي نيّة لتحسين ظروف السكان الرازحين تحت هامش الفقر والقمع وإنعدام أي أفق مغاير. ما يؤشر صراحةً لانحسار الخيارات أمام البقاعي، الذي بات يموت مجانًا أو يُسرق أو حتّى يخطف في الشارع العمومي، من دون أن يكون هناك رادع للجناة. فإما أن يكون البقاعي ضحية عتيدة ومهيئة دائمًا للتعدي، أو يكون طافرًا يباشر فورًا بانتهاز أي فرصة لارتكاب جريمته. وإذا قرر البقاعي أن يختار المواطنة بكل ما تحمله من مسؤوليات وحقوق فعادةً ما يلجأ للنزوح والهجرة، هربًا من هذا الواقع المقيت والخطر.

Figure 1 استناًدا إلى التقارير الصّادرة عن المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي في المجلات الشهرية
Figure 1 استناًدا إلى التقارير الصّادرة عن المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي في المجلات الشهرية


Figure 2 مؤشرات أمنية أصدرتها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي
Figure 2 مؤشرات أمنية أصدرتها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي


تعليقات: