خلاصة 2022: عام الفرص الضائعة

لم تنفّذ الحكومة معظم الإصلاحات المطلوبة، والمصارف قاومت خطة التعافي (Getty)
لم تنفّذ الحكومة معظم الإصلاحات المطلوبة، والمصارف قاومت خطة التعافي (Getty)


بعد أسبوع واحد بالتمام والكمال، يختتم اللبنانيون العام الراهن، وسط انسداد واضح في أفق مسارات الحل السياسي، ما ينعكس بدوره على جميع المعالجات الاقتصاديّة المنتظرة، ومنها تلك المتصلة بمصير الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وإذا كان ثمّة عبارة واحدة تلخّص ما جرى خلال العام على مستوى الملفّات الاقتصاديّة والماليّة، فهي حتمًا عبارة "عام الفرص الضائعة". أمّا كلفة إضاعة الفرص التي حملها هذا العام، فكانت التدهور الذي شهدته جميع المؤشّرات الاقتصادية والنقديّة خلال السنة، ناهيك عن كلفة هذا التدهور على مستوى الوضع المعيشي وقدرة الدولة على القيام بأبسط مهامها.


فرص لم يتلقفها لبنان

خلال الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني الماضي، أوّل أشهر العام، استعاد مجلس الوزراء قدرته على الالتئام، بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر من تعطيل الاجتماعات، الذي تلى الخلافات حول ملف تحقيقات انفجار المرفأ، فيما سبق ذلك أكثر من سنة وشهر من الفراغ الحكومي الذي تلى استقالة حكومة حسّان دياب. باختصار، كان لبنان، ولأوّل مرّة منذ آب 2020، أمام حكومة تملك الصلاحيّة والقدرة على إنجاز المراسيم ومراسم مشاريع القوانين التي يتطلّبها الشروع بالتصحيح المالي والنقدي الذي يحتاجه لبنان، ووفق خطّة تعافي متفق عليها مع صندوق النقد.

في ذلك الوقت، لم تمتلك الحكومة أكثر من بضعة أشهر قبل إجراء الانتخابات النيابيّة، ودخولها مرحلة تصريف الأعمال. إلا أنّ متابعي مسارات عمل فريق رئيس الحكومة ونائبه يدركون جيّدًا أن وفد التفاوض مع صندوق النقد الدولي استثمر فترة تعليق اجتماعات الحكومة، للتقدّم في تلك المفاوضات، وإعادة صياغة خطّة التعافي المالي بالتنسيق مع فريق شركة لازارد، الذي عاد في تلك المرحلة إلى المشهد من بوّابة صياغة الجانب التقني المالي من خطّة التعافي.

ولهذا السبب بالتحديد، كانت الأشهر القليلة التي تفصلنا عن الانتخابات النيابيّة أكثر من كافية لتمرير رزمة مراسيم مشاريع القوانين المطلوبة من الحكومة، ولو تركت أمر مناقشتها وإقرارها للبرلمان الجديد بعد أيّار 2022. كما كانت هذه الأشهر كافية لإقرار المراسيم المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، والتي كان يعرفها جيّدًا الوفد اللبناني المفاوض، حتّى قبل توقيع الاتفاق على مستوى الموظّفين مع الصندوق.

ثم جاء الاتفاق على مستوى الموظّفين مع صندوق النقد ليجسّد هذه الفرصة في أفضل شكل، مصحوبًا بخطّة تعافٍ مالي متواضعة، جرت صياغتها وفقًا لمندرجات هذا التفاهم. ولأوّل مرّة منذ 2019، كان صندوق النقد قد حدّد، وببنود واضحة جدًّا، طبيعة الخطوات الملموسة المطلوبة من الحكومة والبرلمان للانتقال إلى مرحلة الاتفاق النهائي مع الصندوق. وكما هو معلوم، كان من المفترض أن يفتح هذا الاتفاق النهائي أبواباً موصدة عديدة في وجه لبنان، من قبيل الحصول على مساعدات وقروض أخرى من قبل جهات أخرى، والشروع بالتفاوض مع حملة سندات الدين السيادي على أساس الخطّة التي تم التوافق عليها مع الصندوق، وعلى أساس البرنامج الذي سيراقب الصندوق تنفيذه خلال السنوات المقبلة.


إضاعة الفرص والإطاحة بخطّة التعافي

كما هو معلوم، لم يتلقّف لبنان أياً من هذه الفرص. إذ لم تنفّذ الحكومة معظم الإصلاحات المطلوبة، وخصوصًا الإصلاحات الحسّاسة المتصلة بمعالجة الأزمة الماليّة، أي إقرار مرسوم مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، ووضع استراتيجيّة التفاوض على الدين العام وخطّة إعادة الانتظام إلى القطاع المالي. وقبل إجراء الانتخابات النيابيّة، كان من الواضح أن عرقلة هذه الخطوات جاء مدفوعًا بهجمة إعلاميّة وسياسيّة قاسية، تعبّر عن نفوذ النخبة الماليّة وتشابك مصالحها مع مصالح النافذين داخل النظام السياسي.

بعد إجراء الانتخابات، تم ربط فرملة مسارات الحل بدخول الحكومة مرحلة تصريف أعمال، التي تمنعها من اتخاذ أي قرارات تتجاوز هذه الصلاحيّة. إلا أنّ فرملة مسارات الحل، لم تمنع فريق عمل رئيس الحكومة من إقحام تعديلات كبيرة وجوهريّة على الخطّة، بما يقرّبها من وجهة نظر جمعيّة المصارف، إنما بما يبعدها في الوقت نفسه من روحيّة التفاهم المبدئي المعقود مع صندوق النقد. وهذه الخطوة بالتحديد، باتت تطرح أسئلة جديّة حول واقعيّة الخطّة نفسها، وقدرتها على ملاءمة الشروط التي وضعها وفد صندوق النقد الدولي خلال المفاوضات.

وبحلول نهاية السنة، أدرك الجميع أن الخطّة نفسها أُحيلت إلى التقاعد النهائي، بعدما باتت أرقامها غير متوافقة مع الواقع المالي الراهن، الذي شهد تحوّلات كبيرة منذ بداية السنة. كما بدأت المصارف اللبنانيّة، رغم اختلاف وجهات نظرها في بعض الملفّات، بالاستعداد إعلاميًّا للمعركة المقبلة، حول معادلات توزيع الخسائر، في مؤشّر واضح لإدراكها أن الخطّة السابقة باتت في خبر كان.


كلفة الفرص الضائعة

جولة صغيرة على المؤشّرات النقديّة والماليّة كفيلة بعرض الكلفة الباهظة، التي تحمّلها جميع المقيمين في لبنان، نتيجة تفويت كل هذه الفرص والمضي قدمًا بسياسة السقوط الاقتصادي الحر. فحجم بند الموجودات الأخرى، الذي يعبّر عن حجم خسائر المصرف المركزي المتراكمة، ارتفع من 61.49 مليار دولار في بداية العام إلى نحو 93.51 مليار دولار اليوم (جزء منه خسائر بالليرة مقوّمة بسعر الصرف الرسمي القديم). وبهذا المعنى، يمكن القول أن نسبة الارتفاع بحجم هذا البند بلغت حدود 52% خلال فترة تقل عن السنة الواحدة. أما احتياطات المركزي، فخسرت منذ بداية السنة نحو 2.58 مليار دولار من قيمتها، لتقتصر اليوم على أقل من 10.25 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ حجم هذا الانخفاض كان يمكن أن يكون أكبر، لولا شروع مصرف لبنان بشراء الدولارات من السوق الموازية، في عمليّة تحمّلت كلفتها الليرة اللبنانيّة.

وفي النتيجة، بات سعر صرف الدولار في السوق الموازية يتراوح اليوم عند مستويات تتجاوز 45 ألف ليرة، مقارنة بـ27,600 ليرة في بداية السنة. أمّا نسبة التضخّم الناتجة عن هذا التطوّر، فمن المرتقب أن تقارب حدود 186% كمتوسّط سنوي، حسب أرقام البنك الدولي. ومن المتوقّع في حصيلة العام أن ينكمش الناتج المحلّي بحدود 5.4%، وفقًا لأرقام البنك الدولي نفسها، ما سيقلّص حجم الناتج المحلّي إلى أقل من ثلث حجم الخسائر المصرفيّة التي يفترض أن يتعامل معها لبنان اليوم.

بكل بساطة، ما زال الاقتصاد اللبناني يدفع ثمن المصالح الماليّة والسياسيّة التي تحول دون السير بأي من المعالجات المطلوبة من لبنان في هذه المرحلة، وهو ما يمكن قياسه من خلال الأرقام والمؤشّرات النقديّة الملموسة. أمّا الأخطر اليوم، فهو أن الأزمة السياسيّة ستترك الأمور متفلّتة بشكل تام، بغياب أي جهة قادرة على تحمّل مسؤوليّة مسارات الحل المفرملة، وبوجود لوبي مالي متمكّن يسعى لترويج مقاربات غير علميّة أمام الرأي العام، وبما يتعارض مع ما هو مطلوب للخروج الأزمة.

تعليقات: