الرواتب المنهارة لا تكفي البقاعيين شراء برميل مازوت واحد يدفىء ليالي شتائهم (لوسي بارسخيان)
تؤشر الرتابة التي عاشها أهالي البقاع بالإجمال في العام 2022، الى بلوغ هذه المنطقة تحديدا حد اللاوجود، إلّا على الخريطة الجغرافية للبنان. ليس هنا الكلام عن الإنماء اللامتوازن المزمن، الذي يعانيه سكان خمس أقضية تحتل نحو 42 بالمئة من مساحة لبنان، وإنما عن تهميش يتخطى مسؤولية "الدولة ومؤسساتها وأجهزتها" التي لم يعد الكثيرون يعولون عليها أو يقيمون لها حساباً بالأساس. وحتى القوى والأحزاب المتقاسمة للسلطة، التي قلما تنظر إلى البقاع وأهله، لا تتعامل معهم إلا كرافعة إنتخابية فقط.
يترسخ مع نهاية هذا العام واقع البقاعيين المحكومين بيومياتهم. فسنة 2022 روّضت البقاعيين على الإنتظارات الطويلة، والذل المتواصل، والمواجهات المباشرة، وتناتش لقمة العيش والحقوق الأساسية. ليس فقط بين أبناء الوطن الواحد، وإنما أيضا بين اللبنانيين وضيوفهم من النازحين السوريين.
الطوابير أمام المصارف
وهكذا صار مشهد الطوابير إعتيادياً. وقد تنقّل من ساحات محطات الوقود، الى باحات المخابز والأفران. فشهدت الأخيرة على أبوابها أقسى معاني التمييز العنصري بين لبنانيين ونازحين سوريين على رغم تساوي الطرفين في الحرمان. ليتحول رغيف الخبز عنواناً لمعارك وإتهامات أججتها التصريحات العنصرية لمن يفترض أنهم في موقع السلطة.
ولم يكن الحال أفضل على أبواب المصارف. إذ ما عاد اللبنانيون يملكون ترف إنتقاد طوابير النازحين، الذين شكل تكدّسهم لسحب المستحقات من المساعدات الإنسانية منذ سكنوا المخيمات، إستفزازاً لمضيفيهم اللبنانيين في فترات جائحة كورونا... بل صارت الإنتظارات على أبواب المصارف وأمام صرافاتها الآلية، سمة مشتركة في هدر الكرامات مع الوقت، بعدما هدرت الإيداعات. وكل ذلك من أجل حفنة دولارات على سعر صيرفة، قد تشكل سندا لرواتب منهارة أحيانا، إلا أنها لا تكفي البقاعيين لشراء ولو برميل مازوت واحد يدفىء ليالي شتائهم البارد.
وقد زاد في الطين بلة في منطقة البقاع تحديدا، القرار الذي إتخذته بعض إدارات المصارف بإقفال فروعها، وخصوصا في منطقة بعلبك. ما عزز الشعور بالغبن لدى أبنائها، وبرر إنطباعاتهم المزمنة حول الدونية التي يعاملون بها في شتى الميادين، علماً أن تداعيات إقفال فروع المصارف في بعلبك، طالت كافة عملاء المصارف في محافظتي البقاع وبعلبك، بعدما زادت من ضغوطات التسابق على أبواب الفروع العاملة والإزدحام حولها.
وهكذا إذاً صار مشهد الوجوه البائسة، ومواجهات الغضب المتكررة على أبواب المصارف، أمراً إعتيادياً مع نهاية هذا العام. حتى لو إكتسب البعض نعمة الصبر، وأبرز قدرة على تحويل الضغوطات النفسية التي تتسبب بها ساعات الإنتظار، الى تعاضد إجتماعي يمتص "ضيق الخلق". فسمح ذلك للعملاء بتنظيم صفوفهم وإحترامها، وأحيانا حل خلافاتهم، وفض مشكلاتهم بالتراضي فيما بينهم. وصولاً الى التوافق على كره المصارف وتمني للقيمين عليها العقاب الذي يستحقونه.
الخيبة من التغييريين
أما الغضب الفعلي فقد بقي محبوسا في النفوس. وقد روضته صفوف الإنتظار، لتطفئ نار الثورة التي إشتعلت في بداية أزمة لبنان الإقتصادية. وجاءت إنتخابات 2022 النيابية ومجريات معركتها لتمعن في خنق هذه الثورة، لما شكلته من خيبة بالنسبة لتطلعات الشباب خصوصاً وآمالهم بالتغيير.
أما الخيبة الكبرى، فقد تسبب بها من خاضوا المعركة بإسم التغييريين في هذه المنطقة. وقد بان هؤلاء كشركاء في تأمين كافة الظروف التي أعادت تمثيل الطبقة الحاكمة، وقسّمت مقاعد دوائر المنطقة الإنتخابية الثلاثة، بتوزيعات مدروسة بين قواها السياسية. بعد أن صادرت بعض هذه القوى أيضاً شعارات الثورة، من دون أن تنجح حتى الآن في ترجمة ولو شعار واحد الى فعل.
الغبن السنّي
أما الإحباط الكبير في منطقة البقاع هذا العام فقد كان سنياً. بعدما همّش صوت ناخبي الطائفة كنتيجة لخروج تيار المستقبل ورئيسه طوعياً من السباق البرلماني. وهذا ما ظهّر واقع إفتقاد هذه المنطقة لبديل محلي عن مرجعياتها المركزية، في بلد تتقدم فيه الزعامات الطائفية على الوطنية.
ومن هنا كانت الأهمية التي إكتسبتها مؤخرا إنتخابات المفتين المحليين لمختلف أقضية البقاع. والتي لم تأت نتائجها بعيدة عن تلك التي أفرزتها الانتخابات النيابية. بينما ظهر أن إنطباعات إستعادة ولو جزء من مرجعية مفقودة التي خلفها ملء الشغور في مراكز المفتين المحليين، جاءت لتعزز دور رجال الدين في السياسة وإدارة شؤون أبناء الطائفة. وهو ما يرتقب ترجمته خصوصا خلال الإنتخابات البلدية المقبلة إذا ما أجريت.
هذا المنحى ليس حكراً على الطائفة السنية، بل يتخطاه الى مسيحيي زحلة، وأبناء الطائفة الكاثوليكية خصوصاً، والتي تبدو لافتة حركة رأس أبرشيتها الإجتماعية والسياسية الى جانب الدينية، ما يخوله وفقا لما يراه البعض لعب دور في ملء الفراغ بمرجعية طائفته المحلية بزحلة "عاصمة الكثلكة في الشرق الأوسط".
وكل ذلك بظل إصطفافات طائفية للأحزاب المركزية، التي تصادر أصوات "رعاياها" حتى في تعيين رئيس للبلاد، فيما ممثلوها في البقاع يرددون مواقف محاورهم ببغائية بعيدة عن مقاربة هموم البقاعيين وحاجاتهم. وهنا أيضا لا بد من التوقف عند سقوط المبادرة التي أطلقها رئيس بلدية زحلة سنة 2022 لخلق حيثية محلية إنمائية في المنطقة، عبر تعاون نوابها إنمائيا، إذا لم يكن تعاونهم السياسي ممكنا، وبالتالي تضافرهم لتأمين الحقوق الأساسية المشتركة بين ابناء البقاع عموماً، ومن بينها الحق بإنارة الطرقات الدولية وصيانة هذه الطرقات للحد من الحوادث المتكررة، ومعالجة مشكلة النفايات المستعصية في كافة القرى والبلدات، والحد من تلوث الليطاني المتفاقم وتداعياته التي تطال اللبنانيين كما النازحين السوريين المقيمين على أرض البقاع، الى الشؤون المرتبطة بالصحة والتعليم والكهرباء غيرها من الحقوق الأساسية للمواطنين.
اعتكاف القضاء
في المقابل فإن الرتابة على المستوى السياسي في البقاع، ليست سوى واجهة لسلسلة من الخيبات التي عاشتها المنطقة في العام 2022. وحتى على المستوى الأمني والقضائي. وإذا كان إعتكاف القضاة في لبنان قد خلّف تداعيات على منظومة العدالة التي تحكم بين الناس عموما، فإن الأمن ظهر في المقابل بحالة كفاح فردي للعناصر والضباط، وباللحم الحي، للحفاظ ولو على حد أدنى من "هيبة". ومع أن مراجع أمنية في البقاع تؤكد تراجع نسبة السرقات والجرائم في سنة 2022 على رغم الظروف المؤاتية لها، فقد شهدت المنطقة خضات عديدة تركت ترددات مسيئة لهذه المؤسسات قبل سواها: بدءا من هروب موقوفين من النظارات والسجون والمستشفيات. الى عمليات الخطف التي لم توفر هذا العام حتى الأطفال. بوقت توسعت شبكة العصابات التي تتعاطى كافة النشاطات من التهريب الى السرقة والخطف وغيرها، وتمددت ساحاتها بين سوريا ولبنان.
البلديات وأزمة النفايات
وإذا كانت الانتخابات البلدية منتظرة في العام المقبل. لم يكن واقع البلديات أفضل حالاً. بل ظهّرت الأزمة اللبنانية عجز عدد كبير منها حتى في إدارة ملفات النفايات، وقد أديرت شؤون هذه البلديات بجهود فردية ومن خلال تدوير الزوايا الذي سمح لبعض البلديات بأن تصمد، فيما إنهارت بلديات أخرى أمام مشهدية المكبات العشوائية التي عادت لتنتشر في سنة 2022، بعد مئات آلاف الدولارات التي أنفقت على إقامة المطامر الصحية ومراكز فرز النفايات.
هي مشهدية عامة، ربما يتقاسمها البقاع مع سائر المناطق اللبنانية. إلا أن تداعياتها تبدو تدميرية في البقاع، الذي بات اهله يقلقون من أن تنفجر الأزمات الإجتماعية والإقتصادية المتراكمة عليهم، صراعات محلية بين أهالي المنطقة من جهة، وبينهم وبين من لجأوا الى هذه الأرض كمأمن لهم. فالقلة لا بد أن تولد النقار. والإنهيار في البقاع متواصل منذ سنوات. فيما أفق الخروج من هذا النفق تبدو مستحيلة من دون إستعادة الدولة وتمددها بمؤسساتها وهيبتها وواجباتها تجاه هذه البقعة من لبنان.
تعليقات: