القضاء عام 2022: خراب العدالة بالتآمر السياسي والاعتكاف المطلبي

يستمر الاعتكاف القضائي الذي يدخل شهره السادس (Getty)
يستمر الاعتكاف القضائي الذي يدخل شهره السادس (Getty)


دخل القضاء العام 2022 مرحلة الشلل والتعطيل. وهو نتيجة حتمية لتراكم الأزمات عليه في بداية العام الآفل. خلال أشهر قليلة، انتقل القضاة من مرحلة الاعتكاف إلى حال المعارك بين القضاة أنفسهم، وبينهم وبين مجلس القضاء الأعلى.

ولا نبالغ إذا جزمنا بأننا شهدنا انهياراً واضحاً للعدالة في لبنان، حتى بتنا على يقين بأن القضاء كسائر مؤسسات الدولة اللبنانية أعلن انهياره هذا العام. وإن أردنا تلخيص هذا الواقع المرير، فسنكتفي بذكر أزمة الاعتكاف القضائي التي أدت وحدها إلى شلل العدالة.


خرائب العدل

بدأت أزمة القضاء في المعاناة المعيشية التي طالت اللبنانيين والمحامين والقضاة داخل أروقة قصور العدل، إذ غرقت قصور العدل بالظلام والفساد والفوضى. جالت "المدن" عدة مرات داخل قصور العدل خلال هذا العام، وفي كل مرة كان الوضع يزداد سوءاً.

أروقة مظلمة، ملفات ضائعة ومفقودة، اهتراء وعفن، وأعمدة آيلة للسقوط تثير مخاوف المواطنين والموظفين. جلسات المحاكمة على أضواء الهواتف، حيوانات تتنقل بين الممرات، أمراض وحالات اختناق، وأوبئة فتاكة داخل الزنازين. تلك هي حال خرائب العدل التي افتقدت هذا العام للحد الأدنى من مقومات العمل الطبيعي.


الاعتكاف القضائي

في آب الفائت، وبعد سلسلة طويلة من معاناة القضاة مع الأزمة الاقتصادية، في ظل عدم حصولهم على رواتب كافية لتأمين احتياجاتهم، أعلن ثلثي القضاة (حوالى 370 من أصل 550 قاضياً) الإضراب المفتوح. ليبدأ بعدها الاعتكاف الأطول في السلك القضائي.

ومع بداية الاعتكاف، توقفت المحاكمات داخل أروقة قصور العدل، وتغيّب معظم القضاة عن جلساتهم، ما أدى إلى تأجيل المحاكمات إلى أجل غير مسمى. حاول بعض القضاة متابعة ملفاتهم القضائية، آخرون قرروا اعتماد الاعتكاف الجزئي الذي يقضي بمتابعة الملفات القضائية الملحّة، كجرائم القتل والأمور الإنسانية، وذلك بعد مطالبة مجلس القضاء الأعلى بضرورة متابعة القضايا الضرورية لتسيير أمور المواطنين. وبالرغم من استقالة عدد من القضاة إلى جانب الإجازات المفتوحة، يستمر الاعتكاف القضائي الذي يدخل شهره السادس عام 2023 والذي ينذر بالمزيد من الانهيار في السلك القضائي.

وإضافة إلى محاولات مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل هنري الخوري، إيجاد الحلول السريعة لمعالجة هذه المشكلة، فقد دعت نقابة المحامين إلى عودة القضاة عن اعتكافهم أو تقديم استقالتهم. وطالبت النقابة من مجلس القضاء الأعلى اتخاذ التدابير اللازمة بحق القضاة. يعود ذلك لمعاناة المحامين بعد توقف عملهم لأكثر من 5 أشهر وعجزهم عن متابعة قضايا الموقوفين. الأمر الذي دفع مجلس القضاء الأعلى إلى إصدار بيان دافع فيه بشراسة عن القضاة مبرراً فيه اعتكافهم.


انحدار الوضع الأمني

ولا شك أن لاعتكاف القضاة تداعيات خطيرة على الوضع الأمني، كتطبيق الأمن الذاتي في بعض المناطق اللبنانية بعد ارتفاع حالات السلب والسرقة في الشوارع، هذا عدا عن ارتفاع حالات القتل في مختلف المناطق، والتي طالت فئة النساء بشكل كبير.

في السياق نفسه، فإن امتلاء النظارات بالموقوفين وتأجيل محاكماتهم أدى إلى تمنع القوى الأمنية عن إلقاء القبض على السارقين في ظل هذه الفوضى القضائية.


قضايا الفساد

عادت قضايا الفساد إلى الواجهة مجدداً عام 2022، وذلك بعد أن قام القضاء بفتح قضية النافعة، وقضية الدوائر العقارية، وهما أحد أكبر ملفات الفساد في الدولة اللبنانية.

فأصدرت القاضية نازك الخطيب قراراً بتوقيف أكثر من 43 موظفاً من إدارة السير بهدف التحقيق معهم في ملف الرشاوى وهدر المال العام، وتم توقيف المديرة العامة هدى سلوم تحت تهمة الإثراء غير المشروع. وبدأ بعدها تراشق وتقاذف الدعاوى القضائية على الخطيب، إذ قامت سلوم بطلب رد الخطيب عن هذا الملف، كما تقدم وكيل أيمن عبد الغفور، رئيس مصلحة تسجيل السيارات، بدعوى رد للقاضية الخطيب ودعوى مخاصمة الدولة.

في السياق نفسه، فقد تم توقيف أكثر من 35 موظفاً في ملف الدوائر العقارية، بتهم الرشاوى الضخمة. وفي ظل التكتم الشديد في ملف الدائرة العقارية والنافعة، فإن قضايا الفساد ستتابع عام 2023.


عون وسلامة..

وإن إنتقلنا إلى المعارك القضائية التي شهدناها خلال الأشهر الفائتة، فلا يمكننا إلا أن نبدأ بالقاضية غادة عون. الشخصية الأكثر جدلاً لعام 2022 والتي شغلت تحركاتها القضائية الرأي العام.

بدأت عون تحركاتها بالتحقيق مع رجاء سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بتهم تحويل الأموال إلى الخارج، أوقفته وأطلق سراحه لاحقاً بكفالة مالية.

أصرت عون هذا العام على محاكمة حاكم مصرف لبنان، وملاحقته لإلقاء القبض عليه، ليمثل أمامها بتهم تتعلق بالفساد وتبييض الأموال. منعته من السفر براً وبحراً وجواً، ومن التصرف بممتلكاته.

فتصدرت المشهد السريالي الذي سيبقى محفوراً في ذاكرة اللبنانيين، حين قامت بمداهمة منزل سلامة تموز الفائت ومن ثم بمداهمة مصرف لبنان والاستعانة بخبير الخزنات، لالقاء القبض عليه. إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل. لتقوم بعدها بإصدار مذكرة بحث وتحرٍ بحق الممثلة ستيفاني صليبا بعد تحقيقات لبنانية أوروبية أثبتت تلقيها هدايا باهظة الثمن من رياض سلامة. وبعد توقيفها في المطار وإطلاق سراحها بضغوط سياسية، أصدرت عون قراراً بوضع إشارة منع تصرف على أملاك صليبا. وعلى ما يبدو، فإن المعركة طويلة بين عون وسلامة وصليبا.


انتفاضة عون..

وبعد، فإن نشر عون على وسائل التواصل الاجتماعي للائحة تضم أسماء سياسيين لبنانيين تُطالبهم برفع السرية المصرفية عن حساباتهم، متهمة إياهم بالإثراء غير المشروع، أحدث بلبلة كبيرة. ما أدى إلى تقدم رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، بدعوى قدح وذم ضدها، وأيضاً تقدمت ميريام سكاف، ووليد جنبلاط بدعوى مماثلة. فيما اكتفت النائب بولا يعقوبيان -والتي ورد اسمها في اللائحة- بالتعليق "قاضية طائشة".

تمنعت عون عن المثول أمام القاضي غسان عويدات، للتحقيق معها بسبب الدعوى المقدمة من برّي، فتقدمت بطلب رد عويدات. فادعى عليها الأخير بجرم إساءة استعمال السلطة ونشر الأخبار الكاذبة.

غير أنها أحيلت إلى التفتيش القضائي، بسبب عدد من المخالفات، ومنها عدم إلتزامها بالتحفظ والكف عن التحدث بملفات قيد التحقيق، والتمرد على القاضي غسان عويدات، وإطلاقها مواقف على وسائل التواصل الاجتماعي وتسريب بعض التسجيلات المسجلة لها في فرنسا.


طرد قضاة

وشهد عام 2022 سابقة قضائية تمثلت بقرار مجلس القضاء الأعلى بفصل القاضي مارسيل باسيل بتهمة الاهمال الوظيفي، وبوقف القاضي شادي قردوحي عن العمل، لحين صدور القرار النهائي من المجلس التأديبي بحق قردوحي، بتهمة تغيبه عن محكمته، علماً أن قردوحي لم يلتزم بالاعتكاف القضائي طيلة الأشهر الفائتة، فاعتبرت قضيته قضية شخصية.

الأهم من كل ذلك، يبقى "التآمر السياسي" الذي عطل وعرقل القضية الكبرى: جريمة تفجير مرفأ بيروت. وهي القضية التي ترمز إلى تفجير القضاء اللبناني وتقويضه.

كل هذه المعطيات تُنذر بتفاقم الأزمة عام 2023، فالاعتكاف مستمر وستحول جميع الملفات المجمدة إلى العام الجديد، وربما سنشهد خلال الأشهر المقبلة الأنفاس الأخيرة التي سيلفظها القضاء اللبناني قبل الإعلان عن موته.

تعليقات: