بعد عودة القضاة إلى العمل: لبنان أمام شلل مقنَّع؟

الاكتظاظ والتدافع والتأخير سيطغى على جو المحاكم وقصور العدل (ريشار سمور)
الاكتظاظ والتدافع والتأخير سيطغى على جو المحاكم وقصور العدل (ريشار سمور)


كسرت عودة القضاة إلى العمل، بعد اعتكاف دام نحو خمسة أشهر، حالة الجمود المطلق التي تسود قصور العدل في لبنان. لكنها أيضًا، شرعت الأبواب على إشكاليات عديدة تواجه مرفق العدالة هذا العام، في وقت يحاكي واقع كل مؤسسات الدولة التي تشهد على أخطر انحلال ممنهج يصيبها مفاصلها. والسؤال الأهم: هل أصبح عمل القضاة كافيًا لإنهاء أزمة شلل القضاء؟


استقلالية القضاء؟!

في الشكل، يجد كثيرون أن عودة القضاة إلى العمل بعد رفع رواتبهم نحو ثلاثة أضعاف كسائر موظفي القطاع العام، وفقًا للزيادات المفروضة بالموازنة العامة، إضافة إلى السلف التي يحصلون عليها من صندوق التعاضد بالدولار، أطاح كل ذلك سردية ربط فكّ الاعتكاف بمطلب تحقيق استقلالية القضاء. ذلك أن المطلب المادي على أحقيته، كان محور الاعتكاف وسببه الفعلي، وكل ما دونه من مطالب مرتبطة بهيبة القضاء واستقلاليته، يعرف القضاة أنفسهم أن تحقيقها بالظروف الراهنة شبه مستحيل.

وبدا واضحًا من بيان مجلس القضاء الأعلى، أن عودة القضاة ستكون مقرونة بـ"الإمكانيات المتاحة"، وأنهم سيعملون "في ظل حد أدنى من المقومات الضرورية واللازمة في هذه الأوضاع الصعبة والاستثنائية".

وهنا، يشير مصدر قضائي مطلع في وزارة العدل لـ"المدن"، أن معظم القضاة يتجهون للعمل بين يومين وثلاثة أيام في الأسبوع على الأكثر، بدل خمسة أيام، خصوصًا من يعيشون بمناطق بعيدة عن مراكز عملهم. لكن النتائج الفعلية، لن تظهر إلا بالتجربة العملية بدءًا من مطلع الأسبوع المقبل. ويتوقع أن ترتد هذه العودة إيجابًا، ولو بالحد الأدنى، على قضايا الموقوفين، خصوصًا أن الاكتظاظ الحاصل في السجون نتيجة وجود أكثر من 70% منهم من دون محاكمات. كما سيفسح المجال أمام المواطنين تسيير معاملاتهم القانونية والدعاوى القضائية بعد انقطاع طويل.


ما بعد 2019

فهل يعني أن المشهد في قصور العدل وداخل المحاكم سيكون مشابهًا لطوابير الاكتظاظ أمام المصارف؟ يقول مرجع قضائي إن الوضع لن يكون ورديًا حتمًا، وأن الاكتظاظ والتدافع والتأخير في ظل تراكم الملفات من أشهر، سيطغى على جو المحاكم وقصور العدل، وتحديدًا في ظل المعوقات اللوجستية والشح الكبير بالمستلزمات الأولية والقرطاسية وانقطاع الكهرباء. يضيف: "كل الظروف والمؤشرات تقول إن قصور العدل لن تعود وتيرة عملها إلى ما قبل 2019".

في هذا الوقت، يخشى بعض القضاة من تداعيات فك الاعتكاف، الذي قد ينقلب سلبًا عليهم بمرحلة لاحقة، مع استمرار الانهيار في لبنان وانعكاساته على قدرتهم الشرائية والمعيشية، والخسارة المضطردة بقيمة رواتبهم. وتشير المعطيات إلى أن بعض القضاة ينظرون إلى عودتهم للعمل بالموقف المحرج، لأنها ستحرمهم بالمدى المنظور من الاعتكاف مجددًا بعد استنزاف مختلف أساليب المطالبة بحقوقهم. وبعد تحويل سلفة 20 مليار ليرة إلى صندوق تعاضد القضاة قبل أشهر، يخشى كثيرون من عدم استدامة هذه السلفات التي تشكل مصدرهم الوحيد للحصول على مساعدات بالدولار، تتراوح قيمتها بين 500 وألف دولار لكل قاضٍ حسب درجته. ويقول مصدر في وزارة العدل: "نخشى أن تستنزف هذه السلفات من موجبات الصندوق التعليمية والصحية للقضاة، خصوصًا أن معظمهم يعطون أولوية لتقاضي المبالغ المخصصة لهم بالصندوق نقدًا بالدولار". مع الإشارة أن مساعدات صندوق التعاضد توزع على نحو 950 قاضيًا بين حاليين ومتقاعدين، وتشمل ضمنًا مخصصات التعليم والاستشفاء.


التشكيلات ونقص القضاة

في هذا الوقت، وحتى لو عاد القضاة إلى العمل، يواجه السلك القضائي نقصًا كبيرًا بعدد القضاة، وأحد أبرز أسبابه عدم إنجاز ملف التشكيلات القضائية، التي تختزل بدورها أزمة القضاء العميقة بعدم استقلاليته عن السلطة السياسية.

ومقابل عدد من القضاة الذين استقالوا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ثمة نحو 15 قاضيًا أحيلوا بالفترة الأخيرة إلى التقاعد، وهناك آخرون على القائمة، حسب مصادر "المدن"، فيما يوجد نحو 120 قاضياً من الخريجين الجدد ينتظرون البت بملف التشكيلات القضائية. وهكذا، يتناقص عدد القضاة العاملين تباعًا، وهم يقدرون بنحو 570 قاضيًا، فيما يعمل معظمهم بالإنابات، أي بأكثر من محكمة لتغطية النقص العددي للقضاة.

ويُذكر أن عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، شهد أسوأ مرحلة بملف التشكيلات القضائية، وفق مراقبين، إذ أنها معطلة منذ العام 2017 نتيجة التدخلات السياسية. وفي آخر تعطيل لها، كان بعرقلة تعيين رؤساء لمحكمة التمييز في العام 2022، نظرًا لتأثيرها الكبير على مسار التحقيقات في قضية تفجير مرفأ بيروت، المعطل منذ كانون الأول 2021، بفعل الدعاوى وطلبات الرد بحق القاضي طارق البيطار.

وحسب قانون تنظيم القضاء العدلي، فإن التشكيلات القضائية يعدها مجلس القضاء الأعلى، وتصدر بمرسوم يوقعه كل من وزير العدل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ووزير المالية إذا كان القانون يتضمن اعتمادات مالية جديدة. ويوقعه وزير الدفاع بالنسبة لقضاة المحكمة العسكرية. أما في ظل الشغور الرئاسي ووجود حكومة تصريف الأعمال، فيعني أن التشكيلات القضائية المعدة سابقًا سقطت، وأي عمل على تشكيلات جديدة يتطلب أولًا انتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة.

وهنا، يقول الخبير القانوني رزق زغيب في حديث لـ"المدن"، إن الوضع القضائي في لبنان يشبه الإدارة العامة في لبنان، مذكرًا أن القضاء لم يستطع أن يحاكي التحديات التي فرضتها الأزمات ما بعد خريف 2019. وقال: "شكل انفجار المرفأ نقطة تحول مفصلية بعمل السلطة القضائية، التي واجهت علنًا ولأول مرة تداعيات التدخل السياسي السافر بها، وتحديدًا على مستوى التشكيلات، ما وضع القضاء والقضاة أمام ذروة جديدة من التحديات تتجاوز مسألة العمل أو الاعتكاف".

تعليقات: