في وداع السيد


بدلاً من إرجاء جلسة مجلس النواب المقررة لانتخاب رئيس للجمهورية، ربما كان واجب العزاء بالراحل الكبير حسين الحسيني، يقتضي إلغاء تلك الجلسات البرلمانية الهزلية، واعتبار رحيله مناسبة للبحث عن مسار بديل من اتفاق الطائف الذي لم ينفذ، ولن يُعدّل، ولن يُطور، وسيظل عقبة تعطل الحياة السياسية في لبنان وتحافظ على التصاقها بذاكرة الحرب الاهلية وارتهانها الدائم لرموزها وأدواتها.

كان اتفاقاً عظيماً، لأنه أنهى تلك الحرب، لكنه فشل في كل ما عدا تلك المهمة الجليلة. وهو تعبير ظل السيد الحسيني يحرص على تفادي استخدامه، لأنه احتفظ على الدوام بالأمل في تنفيذه الكامل، ولو بشكل تدريجي، وتفكيك حقل الالغام الذي كان يتسع ببطء حتى بات يشمل مساحة الوطن الكاملة، ما سمح لأمراء الحرب وميليشياتها بأن يقطعوا الطريق على انتاج طبقة سياسية جديدة، من خارج خطوط التماس وحواجزها الطائفية.

لحظة الفشل الاولى كانت في زيارة اللجنة العربية الثلاثية الى دمشق لعرض الاتفاق على الرئيس السوري حافظ الاسد ومطالبته باعادة انتشار قواته العسكرية خارج بيروت والجبل والشمال، فكان رده باغتيال الرئيس رينيه معوض، ومصادرة جدول أعمال الطائف وفرض برنامج عمل مختلف تماماً، ما زال ساري المفعول حتى اليوم، يعتمد على القوات المقاتلة على الجبهات وقادتها واحزابها الذين عهد اليهم بالسلطة، ويترك الموقعين في الطائف في العراء، يهجرون السياسة واحداً تلو الآخر. ولعل السيد حسين كان آخرهم، الذي احتفظ طوال العقود الاربعة الماضية بحكمة التبشير بجوهر الطائف وفلسفته المناقضة للحرب الاهلية، استناداً الى قصة "المحاضر السرية" التي كانت في حوزته كما كانت في حوزة اكثر من نائب ماروني شارك في التوصل الى الاتفاق، مثلما كانت في حوزة الكنيسة المارونية، وفي عهدة السعوديين، والسوريين طبعا. لكن الغلبة كانت للقوى المسلحة اللبنانية التي شاركت في الانقلاب السوري الاول على الطائف، والتي تتقاسم السلطة حتى الآن.

مسيرة السيد لا تختصر بهذا الاصطدام مع الانقلاب السوري على مشروع اعادة بناء الدولة اللبنانية، الذي ظل حتى الرمق الاخير يعتبره خيار الشيعة الاسلم والابعد مدى، وحصنهم الاول والاخير، وسبيلهم الوحيد لمصالحتهم مع بقية الطوائف، ومع جميع الاشقاء العرب والاصدقاء الاجانب، من دون التحول الى فرق انتحارية أو رهائن لأحد، وتحويل الطائف الى هوية وطنية راسخة وعميقة، وقاعدة لدور شيعي إصلاحي يبتعد بالجمهورية اللبنانية عن الطائفية السياسية المدمرة، ويؤسس لدولة مدنية حقيقية. لكن احباط هذه الفكرة من قبل الحلفاء الشيعة للانقلاب السوري، كان في منتهى السهولة بالمقارنة مع الجهد الذي بذله الموارنة للقضاء على الطائف بحجة إزالة الظلم اللاحق برئاسة الجمهورية وصلاحياتها، او الذي بذله السنة للحؤول دون تعديل الطائف او تطوير نصوصه، بحجة الدفاع عن موقع رئاسة الحكومة وصلاحياته.

لهذه الاسباب اعتزل السيد السياسة، بعدما سقط اتفاق الطائف وصار سلاحاً قاتلاً يستخدم في المواعيد "الدستورية" كافة، الرئاسية والحكومية والنيابية وحتى الادارية والنقابية، ويشحذ في المناسبات السياسية للتذكير بأن الحرب الاهلية كانت هنا، ولا تزال..وهي لم تحسم بعد بشكل نهائي المعركة على مستقبل الموارنة أو دور الشيعة أو مصير السنة، ولا طبعا الوعد الذي تلقاه الدروز برئاسة مجلس الشيوخ الذي لن يرى النور، مثله مثل لجنة الغاء الطائفية السياسية او ترسيم المحافظات والدوائر الانتخابية، او سواها من الاصلاحات التي باتت أشبه بعبوات ناسفة للاستقرار السياسي الهش، والاستمرار الاقتصادي الضائع.

في اعتزاله، كما في وفاته، حكمة. دولة الطائف التي فشلت تحتاج الى تشييع ودفن لائقين. ربما آن الاوان للتحرر من إرث ذلك الاتفاق الذي سعى السيد جاهداً الى حفظه، وتجاوز ذلك الحلم الشيعي البائد، والخيال الماروني الجامح، والوهم السني الزائف..والاعتراف بان الجمهورية التي حاول حسين الحسيني ترميمها غير قابلة للاصلاح، إلا بصيغ مركبة منبثقة فعلاً، من الحرب الاهلية، تكلف كل طائفة حصراً، بإختيار ممثليها ورموزها في الدولة.. بدءاً من الموارنة، المسؤولين اليوم عن إفراغ رئاسة الجمهورية من مشغّلها.

في ذلك بعض الوفاء للراحل الكبير، وبعض الاخلاص لذكرى الاتفاق الذي خسر حكيمه الاخير..

تعليقات: