يقول دركي: أحيانًا لا أتمكن من شراء الطعام لعائلتي
لم يكن المؤهل في قوى الأمن الداخلي مالك الشما يتخيل حتّى في أسوأ السيناريوهات وأكثرها بؤسًا وإيلامًا، أن تنتهي حياته بهذه الصورة العبثية. و"مالك" الأربعيني الذي فارق الحياة بجلطة دماغية أصابته في مقرّ عمله في طرابلس، منذ حوالى الشهر، متأثرًا بضائقته المالية مضافةً إلى ضغط العمل المضني، والشبيه بالسخرة إن جاز القول، وحرمانه من العلاج اللازم والملحّ حينها، بسبب تأخر الإسعاف لساعتين.. مستسلمًا لواقعه المأزوم والمزري.
وبالتوازي، يمضي اليوم الرقيب الأول محمود عيتاوي إجازته المرضية الممتدة منذ حوالى عشرة أشهر في البحث عن مصادر لتأمين المصاريف العلاجية لوالدته المصابة بالسرطان، أو مال يكفي كفاف يومه وعائلته، التّي ترزح راهنًا تحت هامش الفقر في منزلٍ لم يبقَ من أثاثه شيئًا يُستخدم أو يُباع في حالة عيتاوي.
قصتان يستهلك أصحابها الأسى كخبزهم اليومي. عنصران في قوى الأمن الداخلي (الدرك)، وعلى سيرتهم الآلاف المؤلفة من متقاعدين وفي الخدمة الفعلية، تحتج، تصرخ عبثًا، تنتحر، وفي غالبية الأحيان يتصدر الموت المباغت والمجاني الواجهة كمشهدٍ ظلامي مكرر في مسرحية الانهيار البشعة. وبالدوران نفسه المستميت في حلقة مفرغة من الوعود والآمال، يتخبط هؤلاء في غيبوبة دولتهم ومديريتهم العامة، وأزماتهم الاقتصادية وتهالك أسس الحماية الاجتماعية، من ضمان صحي وحقوق تعليم. وفي حين لا تعدو المطالبات سوى كونها حقوق وحاجات بديهية، لا يزال المعنيون والمسؤولون عن هذا الملف الحيويّ والمصيري مغيبون بعجزهم الملتبس وفسادهم الفضائحيّ وتحاملهم الذي لا يُطاق.
عوارض صحية مفاجئة وانتحار
في حديثه مع "المدن" يروي عبد الله الشما شقيق المؤهل المتوفي (44 سنة، لبناني)، عن ظروف وفاة شقيقه المفاجئة قائلاً: "غادر شقيقي منزله باكرًا إلى مقر عمله في طرابلس، مخفر التل، وبعد وصوله بقليل أصيب بغتة بجلطة دماغية، وبالرغم من محاولات زملائه الاتصال بسيارة اسعاف تابعة للصليب الأحمر توفي أخي بعد مدّة وجيزة، ونقل إلى المستشفى جثة هامدة. وظروف الإصابة نجمت عن الضغط الهائل الذي كان يرزح على كاهله، من ضائقة مالية من جهة، وضغط العمل من جهةٍ أخرى. فأخي المؤهل الذي كان يتقاضى قبل الأزمة حوالى الألف وثلاثمئة دولار، بات اليوم يتقاضى حوالى 40 دولاراً كحدّ أقصى، في حين ضروريات العيش تتجاوز هذا المبلغ بأضعاف، كإيجار المنزل الذي وطأ عتبة المئتي دولار، فضلاً عن أدوية ابنه المصاب بمرض دماغي، والذي تتعدى فاتورته 300 دولار شهريًا، ناهيك بتأمين الغذاء. ولحسن الحظ كان أخي يستفيد من مخصصات المحروقات للتنقل من بيته إلى مركز عمله".
"عندما توفي وجدنا في محفظته حوالى 70 ألف ليرة لبنانية (أقل من دولارين). مات أخي قهرًا ويأسًا كما مات على شاكلته العشرات في قوى الأمن الداخلي طيلة سنوات الأزمة. حتى الآن يعيش أطفاله في حسرة وصدمة كبيرتين، بينما تنتظر عائلته صرف معاشه وتعويضه لتسيير شؤونها. لم نتلق أي خبر للآن من المديرية عنها. أخي العنصر الأمني الذي خدم حوالى 24 سنة الدولة اللبنانية، حاولنا في مراسم تأبينه جمع المال من بعضنا لدفنه. وإن كان مطلبنا اليوم هو تطبيق القانون، وأن ترأف الدولة اللبنانية بهؤلاء الذين لا مسؤول عن وضعهم الحرج سواها، من المؤسف أن نموت بهذه الطريقة العشوائية"، يُضيف الشما.
الفرار
باتت أسباب الوفيات المفاجئة في صفوف العناصر الأمنية تُعزى بغالبيتها لضغط العمل وأزمتهم الاجتماعية الضاربة التّي تحدق بالعناصر المفقرة والتّي تدنت معاشاتهم الشهرية بوتيرة الانهيار المستفحلة. وعقب ما يقارب الأربع سنوات ونيف على توقيف التوظيف في الأسلاك العسكرية، والذي اقترن مباشرةً بنصّ قانون موازنة 2019 الذي أوقف بموجبه التسريح، هناك حوالى الثلاثين ألف عنصر أمني بين رتيب وضابط، غالبيتهم من الكهول والأعمار المتقدمة، محتجزون قسرًا في إطار خدمتهم. هذا الواقع فرض على البعض صراعات نفسية وإحباط من انسداد الأفق التام. فبعضهم حاول الفرار والذي بلغت حالاته الآلاف في السنوات الأخيرة، والبعض الآخر لم يجد أي سبيل للعيش سوى بمعاشه الزهيد، فبقيّ في إطار الخدمة على مضض. منتظرًا الانفراجة أو الموت في أسوأ الأحوال.
أشار المحامي راشد طبال، والمؤهل الأول السابق في قوى الأمن الداخلي، الوكيل القانوني لأسرة المؤهل الراحل، أنهم يتابعون قضية الشما عند القضاء وإجراءات التعويض الذي ستحصل عليه عائلته. وذكر طبال: "يعيش عناصر قوى الأمن الداخلي في أزمة حقيقية لا نرى مثيلها اليوم عند سائر الأجهزة الأمنية. فبدل المعالجة الفعلية غير التلفيقية، لا تزال تنتهج المنظومة السّياسية والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي سياسة التحامل والتسويف. وفي حين سُجلت آلاف حالات الفرار من المؤسسة، إضافة إلى مئات العناصر الممتنعين يوميًا عن الالتحاق بمراكزهم، هناك عشرات حالات الانتحار والوفيات بالسكتات القلبية والجلطات الدماغية الناجمة عن الضغوطات المعيشية. هذا، وتوقفت غالبية المستشفيات منذ أشهر طويلة عن استقبال العناصر بسبب امتناع المديرية عن تسديد المستحقات المترتبة عن طبابتهم من جهة، وبسبب تدني التعرفات المعتمدة من قبل المديرية من جهة ثانية. والمدارس الخاصة بغالبيتها لا تستقبل أطفال العناصر بسبب تأخر المديرية عن تسديد مستحقات التعليم، ناهيك عن أزمة الرواتب. وبالرغم من تقديمنا لشكاوى قضائية عند مجلس شورى الدولة نيابة عن 250 زميلاً متقاعداً، وتعاوننا مع عدد من العناصر في الخدمة الفعلية لاستحصال حقوقنا، لا تزال المديرية تتخلف عن تطبيق القوانين. هذا فيما يبدو أن الجهة الأولى المولجة بتطبيق القانون قد تخلت عن واجبها علانيةً وبحق عناصرها في المرتبة الأولى".
ويضيف الطبال: "الفرار من الخدمة هو الحلّ الوحيد والأخير المتبقي أمام بعض عناصر قوى الأمن الداخلي، للهرب مما بات يُطلق عليه "العمل بالسّخرة". وبالرغم من تكتم المديرية التام عن هذا الموضوع. فالعنصر اليوم ممنوع من العمل في مكان آخر، رغم فقدان قيمة راتبه. لكن معظم العناصر توجهوا مؤخرًا إلى عمل آخر بدوام جزئي. فطلبات التسريح ترفض، منذ أكثر من 3 سنوات، رغم انتهاء عقود تطوع كثيرين".
تفقير وصل حدّ بيع الأثاث
لا يخفي محمود عيتاوي الرقيب الأول في قوى الأمن عجزه اليوم عن تأمين المال الكافي للعيش بكرامة، وتلبية حاجات والدته الصحية. وعيتاوي الذي قام ببيع أثاث منزله بأكمله لتأمين مصاريف علاجها، يقول في حديثه مع "المدن": "حاولت التواصل مع عدة جمعيات لمساعدتي، لكن المساعدات لم تكن على القدر ذاته من احتياجي لها. ابني الوحيد الذي بدأت أرسله إلى المدرسة الحكومية بسبب وضعي المالي يؤسفني حاله، وهو الطفل الذي يعيش على نظام غذائي متعثر. فأحيانًا لا أتمكن من شراء الطعام لعائلتي، فيما باتت اللحوم ومشتقات الحليب من الكماليات التّي استغنينا عنها منذ مدّة. وصل بي حالي المزري حدّ أنني نشرت على صفحتي الفيسبوكية مطالبي ودعواتي للمدير العام الذي وعدني بالمساعدة، من دون الخشية من العقاب. فلا عقاب أكبر من الذي نعيشه اليوم. راتبي اليوم لا يساوي 30 دولاراً من دون المساعدات التّي قدمتها المديرية أخيرًا. والتّي أصلاً لا تكفي لسداد إيجار المنزل في طرابلس أو حتّى اشتراك الكهرباء أو شراء الطعام".
يشرح المؤهل الأول المتقاعد شفيع الأيوبي في حديثه مع "المدن"، أن عيتاوي ليس وحده من يعيش هذه المظلومية. فالآلاف غيره على عتبة الجنون. العناصر في وضع حرج وبالرغم من المطالبات والدعوات كافة لا نزال منذ بداية الأزمة وما قبلها نطالب بالإنصاف على أقل تقدير. إنصافنا بحقوقنا التّي عملنا سنوات عمرنا من أجلها. فيما لا تزال المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي غائبة عن السمع، وبات العناصر والمتقاعدون على حدٍّ سواء يختنقون من تداعيات الأزمة: أزمة الفساد والمحسوبيات والبيروقراطية، وغياب الإدارة الرشيدة في مؤسسة عريقة ومهترئة في آنٍ واحد، فيما ينخر ورم التسيس الفضائحيّ والصراعات الداخلية على السّلطة والمال في عمقها، والمسؤول الوحيد غير عابئ بآلاف العناصر وأسرهم، ومأخوذ بصراعاته السياسية".
تبرير رسمي!
يبرر مصدر أمني لـ"المدن" هذا الواقع قائلاً: "مرد الأزمة هو كون ميزانية قوى الأمن الداخلي منذ سنوات طويلة وحتى الآن لا تزال على حالها، بالرغم من كون عديد العناصر قد تضخم بصورة كبيرة. هذا الأمر لم ينعكس على أوضاعهم فحسب بل انتقل ليصبح أزمة أمن عامة: فالعناصر المنهكة والمفقرة باتت عاجزة عن أداء واجباتها، والمراكز الأمنية في حالة فوضى عارمة. وبالرغم من كل المحاولات للإصلاح وسدّ الفجوات، هناك شوط طويل يفصلنا عن تحسين الظروف بصورة جذرية. ومن الحلول المطروحة والسليمة هي قبول طلبات تسريح العناصر وضخ دماء جديدة في المؤسسة الهرمة، والتفاوض الرسمي والجاد مع المعنيين لوضع خطط واضحة. وإلا فإننا وصلنا إلى نقطة لا رجوع فيها. نقطة التفلت الأمني المطلق وتخلف الجهة الرادعة قسرًا عن أداء مهامها".
تعليقات: