لبنان خمسون سنة إلى وراء.. عن أي وراء تحدث الجنرال كوخافي؟!

عن أي وراء تحدث الجنرال كوخافي؟!
عن أي وراء تحدث الجنرال كوخافي؟!


كشف رئيس أركان ​الجيش الإسرائيلي​ المنتهية ولايته، الجنرال ​أفيف كوخافي، يوم الجمعة الماضي عن أن جيشه كان "مستعداً لإعادة لبنان 50 عاماً إلى الوراء إذا دخل في حرب مع حزب الله، لأنه لن يكتفي باستهداف التنظيم المسلح، وسيضرب كل البنية التحتية اللبنانية".

بقديم الزمان، قبل العام 2019، كانت هكذا تهديدات تخيف اللبنانيين فعلاً، ويسترجعون معها ما أصابهم من ضربات مؤلمة في الأعوام 1993، 1996، وبالأخص في العام 2006.

لكن هذه المرة تعامل اللبنانيون مع هذا التهديد باستهزاء وبروحية الكوميديا السوداء. بل بدا كوخافي بنظرهم جاهلاً بلبنان وأحواله. فأي متابع عادي لنشرات الأخبار، سيعرف أن لا أحد سيعيد لبنان 50 سنة إلى الوراء، فالبلد عاد بنفسه مئة سنة إلى الوراء ومن دون أي حرب أو عدوان.

يمكننا التخمين أن الإسرائيليين كانوا سيضربون معامل الكهرباء لفرض العتمة الشاملة. سيضربون المرفأ لشلّ الاقتصاد، مدرجات المطار لقطع صلته بالعالم، الجسور والطرقات الرئيسية لمنع التنقل.. ستكون حرباً تخرب التجارة والصناعة والسياحة والزراعة، تدفع اللبنانيين إلى الهجرة، تسبب انهياراً بقيمة العملة، تدمر شبكات المياه، توقف سلاسل استيراد الأدوية والأغذية وحليب الأطفال، تنشر الفوضى الأمنية والاجتماعية، تضعف النظام الصحي والاستشفائي، تعطل السياحة وتفلس المؤسسات، وربما تسبب أيضاً بفوضى سياسية واضطراباً في نظام الحكم.

كل هذا التخمين بمحله، لكن هذه المرة.. لا حاجة لعدوانية إسرائيل ولا لقوتها النارية. بل ما عاد هناك من معنى للتهديد. فكل ذلك وأكثر بكثير وقع وحدث من دون أي غارة أو قصف.

نحن سلفاً هناك، أبعد من خمسين سنة. لا حاجة لقصف المدارس، فهي معطلة والأساتذة من إضراب إلى آخر، فقط لتحصيل ثمن صفيحة بنزين على الأقل. والطلاب بلا تعليم حقيقي منذ ثلاث سنوات. لا يوجد رئيس جمهورية ولن يوجد في وقت قريب. لا حكومة أصيلة، وإن وجدت فهي في حفرة إفلاس بالغة العمق والضيق. لن نكتب بالتفصيل عن القضاة والقضاء والمدعين العامين والمحاكم، لكن اللبنانيين يعرفون أن نظام العدالة برمته مفقود. إن اعتقلك مخفر لأي سبب تافه قد تقضي سنوات في السجن لأن لا محكمة أو قاضي سيخرجك.

من المبتذل أيضاً التذكير هنا أن لا حرب استطاعت أن تفعل ما حدث لليرة اللبنانية، وما من خطة عسكرية تستطيع أن تنجز ما أنجزته المصارف بأموال اللبنانيين وغير اللبنانيين. حرقت وبخّرت مليارات الدولارات. ما من غزو يجعل الحد الأدنى لراتب اللبناني يتراجع من نحو 400 دولار إلى حوالى 40 دولاراً.

الدبابات ليس بمستطاعها أن تخرب شبكة المواصلات والمجارير والمياه، وتلوث الأنهر والشواطئ، وتدمر الغابات، على نطاق شامل كما هو حال لبنان اليوم.

الطائرات وصواريخها ما كانت قادرة على صنع أكبر تفجير غير نووي في التاريخ. ما كانت لتمنع القوى الأمنية مثلاً من تأمين الوقود لآلياتها، أو توقف الموظفين عن الدوام في الإدارات الرسمية.

بالتأكيد، كل الحملات التدميرية التي اقترفتها إسرائيل، لم تستطع أن توقف بالكامل إنتاج الكهرباء. فعن أي "وراء" تحدث كوخافي هنا؟ ثمن وقود معامل الكهرباء غير متوفر، وإن توفّر فلا قدرة للمعامل على إنتاج كهرباء 24 ساعة متواصلة.

هل يتخيل أي لبناني أنه سيأتي يوم يكون طموح وزارة التربية وسائر الوزارات، أن تُعامَل، بوصفها جمعية خيرية مفلسة تشحذ التبرعات الدولية لدفع رواتب موظفيها؟ وزارات تغار وتحسد اللاجئين السوريين لأنهم ينالون مساعدات.

كل "المؤامرات" الإسرائيلية لا يمكن ترتقي ولو بالخيال إلى مصاف هذا الدمار العميق الذي أحدثه الفساد، الذي تحول إلى نظام حياة لا مفر منه. وباء قذف لبنان إلى أبعد من خمسين سنة، إلى ما قبل "النظام" و"الدولة" و"القانون" و"المحاسبة".

في السابق، كان يمكن للبنانيين الانقسام حول كيفية التعامل مع التهديدات والسياسات الإسرائيلية، وكان يسبب هذا شرخاً وطنياً واضطراباً في الحكم. اليوم، بلا أي جهد إسرائيلي، لا مقومات أصلاً للحكم. والانقسامات باتت تشظياً عنيفاً للجماعات اللبنانية، التي تنغمس أكثر وأكثر بتكريس الانتفاء لأي حاجة لدولة: ملل ونحل بلا دستور يجمعها "تتعايش" مع اللادولة واللاقانون. ما من حرب يشنها جيش كوخافي بمقدورها تحويل اللبنانيين قبائل فالتة كما هم اليوم.

على الأرجح، لن تضطر إسرائيل بعد اليوم إلى أي حرب معنا. لقد عدنا إلى الوراء أكثر مما يتمناه أي عدو.

تعليقات: