بعد حفاوة جوائز المهرجانات المسرحية العربية، وجائزة التانيت الذهبي لأيام قرطاج المسرحية، وتتويجات في القاهرة وبغداد، وصلت الى مسرح "المدينة" في بيروت مسرحية "آخر مرة" وهي من تأليف وإخراج وفاء الطبوبي وتمثيل أسامة كشكار ومريم بن حميدة.
تلخّص مسرحية "آخر مرة" صورة واقع العلاقة الملتبسة بين المرأة والرجل في ثلاثة فصول، أضافت عليها وفاء الطبوبي الخصوصية المحلية المأزومة عبر موروثاتها والتي تعود وتبرز بشكل نافر مع كل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية تشهدها المجتمعات العربية.
في الفصل الأول الـ"هو" والـ"هي" في معترك العمل اليومي والدائرة المهنية المغلقة بقبضة النفوذ الذكوري، الذي ينكر قدرة المرأة ومهاراتها. المدير الذي صعد إلى منصبه بدعم من منظومة المحسوبيات ومن خارج شروط المهنية والكفاءة، يصطدم بسكرتيرته التي تتفوّق عليه في وعيها المعرفي والعلمي، وهي الحائزة شهادة دكتوراة في مجالها، لكن واقعها وظروفها الاجتماعية يجبرانها على العمل تحت نفوذ المدير ونزقه وفائض قوته التي، تنتهي بعد حوار عاصف بفعل تحرّش وحشي في مشهد آسر، أبرزت فيه المخرجة وفاء الطبوبي قدراتها التخيّلية والجمالية على خشبة المسرح.
في الفصل الثاني يصبح الـ"هو"، الابن الهش، وتتحوّل طاولة العمل الى مطبخ أمّ، وسطوة سكينها المسلط على رعونة الابن وبطالته. "هو" المدمّر والمستسلم للإدمان والعاجز على بناء استقلاليته، و"هي" الأم سليطة اللسان وصاحبة القرار والتي لم تيأس من محاولة جعل الابن نسخة مكرّرة عنها، متسلّحة بنفوذ وسيطرة الأم المعيلة أمام ولد يحاول التحرّر من سطوة الوالدين. الابن المسجون في هشاشة الواقع المسيّج بالنميمة والبطالة والإدمان، ينتهي، بعد حوار مشابه لعنف مشهدية الفصل الأول، إلى عملية قتل ذهنية أوديبية يائسة.
فيما تفرد المؤلفة والمخرجة وفاء الطبوبي في الفصل الثالث لبحث العلاقة بين زوجين، "هي" بمزاجيتها ومشاكلها ونقاط قوتها وضعفها و"هو" بدوره الضائع بين القوة والضعف، بين الحضور والتهميش والقمع الخارجي. علاقة حب متأجّجة تنتهي إلى رتابة يومية ولامبالاة، تفاصيل العمر ويومياته التي تحفر في الأعمار، كما تحفر في العلاقات المتروكة إلى قدَرها وإلى تغييبها عبر المسكوت عنه وأسراره التي تنفجر في العرض بحوارعنيف لفظي وحركة جسديّة ملتبسة بين الإتصال والإنفصال تنتهي بطبق مسموم لعشاء زوجي أخير.
الكتابة بالجسد والضوء
طاولة وكرسيان يحملان ممثلة وممثلاً، وكل ما سبق وتقدم. سينوغرافيا مقفلة ومحكمة الإغلاق على دائرة الصراع بين الفصول الثلاثة. العنف الجسدي يتماهى مع العنف اللفظي ويتجاوزه في معظم الأحيان. حوار متماوج يُبنى على الخشبة ويتصاعد لفظياً وحركياً وصوتياً وبصرياً حتى دويّ انفجاره على الخشبة، ليعود ويُبنى من جديد.
الإشتغال على الجسد في "آخر مرة"، يُشعر المتلقي كأنه امتداد لذاكرة جسد تمثيلي وراقص سبق أن كان له الحضور الوازن في أعمال مسرحية، تعتبر من التجارب المضيئة في المسرح التونسي الحديث، وهي الأعمال الذي اتخذت من مسرح القسوة أحد مصادره ومراجعه.
في عمل وفاء الطبوبي، تطوير زمني وجيلي للخطاب الجسدي يعمل على صدم حواس الجمهور عبر استخدام عنف الصور والإشارات المرسلة إلى مشاعر المتلقي. صور تعتمد على الايقاع الكلامي والصوتي والموسيقي الصارخ، والكثير الكثير من التعبير الجسدي والايماءات التي تصل بتجسيد المعنى والموقف الى حدوده القصوى. خطاب جسدي عمل الممثل أسامة كشكار على حضوره الخارجي والداخلي عبر التوظيفات الدرامية في بناء شخصياته، وعملت الممثلة مريم بن حميدة على حضور إدهاشه الحركي بتقنياتها وأدواتها الممسوكة.
جسدان بالأسود والأبيض يقفلان على نفسيهما المكان ويشكلان عالمهما القاتم على طاولة تفصل وتجمع بينهما، وعلى كرسيين يتشكلان على المسرح في جميع الاتجاهات بحثاً عن مخرج. لا أمل في النجاة من هذا السجن إلا عبر إضاءة ملفتة كانت حاضرة ومؤثرة في مسارات العمل، أضواء تعمل أحياناً على تلوين لحظات أو فتح ممرات يخرج منها الجسدان كمتنفس طوارئ أو بارقة أمل بين لحظتين قاتمتين، أو فسحة لعب بين عتمة وضوء. إضاءة لا تلبث أن تخفت، ليعود الجسدان الى سجنهما وصراعهما الأزلي بين الـ"هو" وإلـ"هي"، أو بين تقمّص الشخصيات وأدوارها المتبادلة، تماماً مثل شخصيات مسرحية "آخر مرة": بين العنيف والمعنّف والضحية، بين المضطهدة والمتسلطة والقاتلة... هكذا إلى ما لا نهاية.
تعليقات: