لعل شحّ المصادر، دفع برنامج "يسقط حكم الفاسد" في قناة "الجديد" إلى "سبق" عن فضيحة فساد مزعومة في وزارة التربية، تندرج ضمن إطار الافتعال لملف يُباع من خلاله الجمهور "أوهاماً" حول قدرة صحافية على "الاستقصاء" ومكافحة الفساد.
ينطلق "الكشف" من تغريدة نشرها محامٍ، الصيف الماضي، يتحدث فيها عن سرقة بقيمة مليوني دولار في الوزارة، في إشارة إلى الأموال المرصودة لإجراء الامتحانات الرسمية للمدارس الرسمية والخاصة والمهنيات، بعد تهديد الأساتذة بعدم إجراء الإمتحانات وتصحيحها في حال لم يتقاضوا أتعاباً محقة. وكان قد تم الاتفاق على تمويل الامتحانات من جهة مانحة بقيمة مليوني دولار، حصل بموجبها الأساتذة المراقبون والمصححون والعاملون في المكننة والتفتيش على 18 دولاراً لكل منهم يومياً، واستفاد منها الآلاف.
وفي ملف مكشوف آخر، وقع خطأ تقني، تمثل في صرف بعض الحوافز مرتين لبعض الأساتذة، إثر خطأ في السيستم، ثم تمنّع الأساتذة الذين وصلتهم المبالغ مضاعفة، عن إعادتها. افتُضح الخطأ، ولم يستطع أحد إجبار هؤلاء على إعادة ما تقاضوه مرتين. فدخل الملف في سياق "فساد" في الوزارة.
تحرك فريق "الجديد"، وتوعد بفضح ملف "سرقة المليوني دولار"، قبل اختتام الموسم التلفزيوني الشهر الماضي. لم يتمكن من الحصول على أي معلومات. تواصلت إحدى مقدمات البرنامج، ليال بو موسى، مع مسؤولة في وزارة التربية التي أبدت تعاوناً بتقديم الملفات، واشترطت تقديم طلب رسمي للوزير عباس الحلبي.
حاولت بو موسى استدراج المسؤولة بالقول إن هناك ملفات موجودة في حوزتها، وتحتاج الى تعاون معها لكشف الفساد. فكان جواب المسؤولة أن عليها عرض الملفات التي في حوزتها، وتكشف الفساد كله، وإذا احتاجت أي شيء إضافي، عليها أن تقدم طلباً رسمياً يُرفع الى الوزير للموافقة.. وهو ما لم يحدث آنذاك، لا بتقديم الطلب، ولا بعرض القناة مستندات قالت إنها تمتلكها. تكرر الأمر هذا الأسبوع، وطلبوا مستندات متعلقة بالأموال التي أنفقت على الامتحانات، تمهيداً لعرضها في حلقة يوم غد الجمعة.
وبعدما فشل البرنامج في كشف "سرقة المليوني دولار" المزعومة، يجول مراسلوه الآن في أروقة وزارة التربية، ويستصرحون موظفين عن أسباب تلقيهم أموالاً بالدولار، بينما يتقاضون أتعابهم بالليرة اللبنانية من الدولة، علماً أن قراراً صادراً عن الوزير قضى بذلك إثر تسوية مع روابط المعلمين.
ملاحقة الفساد من "الشروش".. وحدة التحقيقات الإستقصائية في قناة الجديد ستحرق الأخضر واليابس في أوكار الفساد!#يسقط_حكم_الفاسد الجمعة 9:30 مساءً على #الجديد@riadkobaissi pic.twitter.com/MnKT3qE2rK
— AL Jadeed Tv (@AlJadeed_TV) January 12, 2023
والحال إن البرنامج، يبيع جمهوره الأوهام حول "كشف عظيم" بدت سياقاته ضحلة، ولا ترتبط بعملية فساد منظّمة في الوزارة. هذا لا يعني أن الوزارة بالضرورة خالية من التجاوزات، بل المشكلة في اختيار "الفضيحة" وفي طريقة "كشفها". المشكلة في كاشفي الفساد هنا، أنهم استصرحوا شخصاً في الوزارة في احدى حلقات الخريف الماضي، جاء تعيينه فضيحة إدارية، وهو مازن الخطيب الذي احتفوا به كمدير عام للوزارة "تم تعيينه أخيراً" بدلاً من فادي يرق، حسب مقدمي البرنامج، علماً أن الرجل لم يعين من مجلس الوزراء، وليس مديراً بالتكليف. هو مستشار مكلف بمهام المدير العام، وهي فضيحة إدارية، لو كان المعدّون والمقدّمون يدركونها.
والحال إن كاشف الفساد هنا، غير الضليع في سياق التعيينات الإدارية، يبدو مدافعاً عن ملف فضيحة آخر، لم يكلف نفسه تقصّي وقائعه، وهو ملف جامعات خاصة توصف بالـ"دكانة"، افتضح مستوى تعليمها ومخالفاتها، ما دفع نقابة المهندسين إلى عدم إعطاء خريجيها إذناً بمزاولة المهنة. ثم توصل المعنيون إلى تسوية تقضي بأن يخضع هؤلاء لامتحانات في الجامعة اللبنانية، ومَن ينجح، يتم اعتباره خريجاً رسمياً ويحق له مزاولة المهنة. رفض الطلاب حينها، وتبنى البرنامج التلفزيوني "الاستقصائي" ملفهم بوصفهم "مظلومين"، علماً أن الجامعات الخاصة التي تحيط مستواها مئات علامات الاستفهام، استخدمت طلابها في مواجهة محاولات إصلاح القطاع التربوي، وظهر هؤلاء في البرنامج على أنهم "ضحايا الفساد التربوي"!
لا تتسع ملفات التربية لكشف حجم ضحالة المعلومات والتقديرات والانفعالات (إن لم نقل التورط المسبق في الشعارات)، لدى الممسكين بهذا الملف في برنامج "يسقط حكم الفاسد". فشرعنة الجامعات التي تحيط بها ألف علامة استفهام، يفترض ألا تكون مهمة برنامج استقصائي، إلا إذا كان معدّوه يتعاطون بانفعال وعواطف مع مَن وُضِعوا في مواجهة رقابة الدولة..
يقوم البرنامج على رفع شعارات طنانة في أكثر من ملف، غالباً ما تكون خاوية، ولا تبرّئ البرنامج من ارتباطات مع رجال السلطة الذين يعطون البرنامج قدراً مسموحاً به من معلومات ووثائق، تحت سقف "التعاون الإيجابي" و"الاستجابة البناءة"، حسب وصف مستشار رجل سياسي بارز في لبنان. وللمفارقة، إن أحد وزراء التربية السابقين كان ضيفاً دائماً في "الجديد"، ضمن إطار "التعاون الايجابي"!
وقد بات "بيع الأوهام"، حرفة تشرّع لبعض معدّي البرنامج استهداف زملاء، وكَيلِ الاتهامات لهم، تناغماً مع "وكيل معلومات البرنامج" الجديد في الوزارة.. وغيرها!
تعليقات: