على طول الساحل الممتدّ من جنوب صور وصولاً إلى الناقورة، أنت على موعدٍ مع معرض الطبيعة الفني، بتذكرة حضورٍ مجانية. فهذه الرقعة البحرية لم يمسّها بعد تشوّه عمراني، خلافاً لحال أغلب الشواطئ اللبنانية حيث تُحجب زرقة البحر عن أنظار العابرين، ما خلا استثناءات عمرانية بسيطة. غير أنّ أيادي الطبيعة القابضة على شواطئ المنطقة لم تكن خيار المالكين، إنما واقع فرضته تصنيفات المخطط التوجيهي للشواطئ منذ حوالى العقدين من الزمن، ما أجهض مشاريع سياحية ضخمة على طول الساحل الجنوبي.
أثر التصنيف على الإعمار
صنّف المجلس الأعلى للتنظيم المدني في لبنان، المنطقة الساحلية الممتدة من منطقة رأس العين إلى رأس الناقورة، وفقاً للقرار الرقم 15 الصادر بتاريخ 16/3/2003. ورغم تعدّد التصنيفات المعتمدة، ما بين زراعية وسكنية وسفوح وأودية ومحميات طبيعية وغيرها، تبقى للتصنيف الزراعي صفة الغلبة.
يشير أحد المهندسين المطّلعين بشكل مباشر على الموضوع، إلى أنّ أكثر من 75% من الأراضي الساحلية مصنّفة زراعياً بشكل عام، إذ تزداد النسبة أو تقلّ وفقاً لكلّ منطقة، إذ لهذا التصنيف انعكاس سلبي على حركة الإعمار عند الخط الساحلي الجنوبي. فبحسب المهندس، إنّ امتلاك 1000 متر ضمن رقعة مصنّفة زراعية، لن يسمح لك باستغلال أكثر من 50 متراً للبناء، بارتفاع طبقة واحدة لا أكثر، ما يعطّل حركة الإعمار في الكثير من العقارات. لا تنعكس تبعات التصنيف على العقارات الملتصقة بالشاطئ فحسب، إنما أيضاً على عقارات هذه البلدات بشكل عام، إذ يوضح المهندس «أنّنا لو اطّلعنا على تراخيص البناء في كلّ بلدة، لفوجئنا بالعدد الضئيل للتراخيص المراعية لمعايير التنظيم المدني وشروطه، ولا سيما أن التنظيم المدني في صور يلتزم بسقف المجلس الأعلى للتنظيم المدني في لبنان لناحية إعطاء التراخيص وفق المخطط الملحوظ».
يطالب رئيس بلدية القليلة محمد شمالي بتسيير التراخيص البلدية بعدما مرّت ثمانية أعوام على توقيفها. يعتبر شمالي أنّ هكذا خطوة من شأنها «تحريك العجلة الاقتصادية في البلدات وتوفير مردود مادي للبلديات في ظلّ الأوضاع الراهنة، وبخاصة أنّ أكثر من 300 شخص ينتظرون التراخيص البلدية في بلدة القليلة وحدها». ضمن هذا الإطار، يعقّب شمالي بأنّ دور البلدية حالياً في هذا الشأن يقتصر على إعطاء تراخيص ترميم أو أعمال تكميلية بعد الكشف عليها ورفعها الى القائمّقامية.
انخفاض قيمة العقارات
في هذا الصدد، يعتبر أبناء المنطقة أنّ المخطط التوجيهي هذا جمّد على مرّ السنوات، ولا يزال، مشاريع سياحية وتجارية وسكنية مهمة كانت ستُنعش المنطقة وتغيّر حال أهاليها للأفضل. نتيجة التصنيف، تحظى العقارات المنتشرة في غالبية المنطقة بقيمة مادية أقلّ مما تستحقه نظراً إلى موقعها وجمال إطلالتها. يتساءل الأهالي: هل يشتري المستثمر عقاراً مطلاً على البحر بسعر باهظٍ، بينما يتعذّر عليه استغلاله سياحياً أو حتى سكنياً بأقلّ تقدير؟ هل يدفع مئات آلاف الدولارات على أرضٍ بحرية ليزرعها؟
وحدها الناقورة بين قرى الساحل الجنوبي تحظى بهذا الاستثناء. فرغم التصنيف الزراعي الطاغي، تحافظ أسعار عقاراتها على ارتفاعٍ مستمر. لا جواب منطقياً لهذا الاستثناء عدا تأثير اسم الناقورة على الأسعار، ورغبة كبار المالكين بأن يمتلكوا عقارات ضمن هذه الرقعة الجغرافية. فمثلاً العقار الذي يبلغ سعره 150 ألف دولار أميركي في المنصوري، القرية المتاخمة للناقورة، يتعدى الـ300 ألف دولار أميركي في الناقورة بأقلّ تقدير وبالمواصفات نفسها. لكن هذا لا يلغي انعكاس التصنيف على الواقع السياحي والسكني للبلدة، خاصة بعدما صُنّفت الواجهة البحرية للمنطقة تحت عنوان حماية الشواطئ.
...وحماية الشاطئ
لكن رغم ثغرات المخطط التوجيهي الكثيرة والمجحفة بحقّ المالكين، لا يمكن إنكار حماية التصنيفات للمناطق الزراعية والحرجية والشواطئ البحرية، بإيقافها لفوضى البناء في المحلّة واجتياح طوابق إسمنتٍ التي تشوّه المناظر الطبيعية وتغيّر معالم المنطقة. ولعلّ تبعات المخطط القانونية كان لها الفضل الأكبر في تكريس سمعة بيئية جيّدة لهذه الشواطئ، فهي اليوم تُعدّ من أنظف الشواطئ اللبنانية وأجملها. هذا لا يلغي طبعاً ضرر القرار على المنطقة ونسب الاستثمار فيها.
تحرّكات بلدية
حاولت بلديات القرى المتضرّرة، الناقورة والقليلة والمنصوري ودير قانون رأس العين، مراراً التحرّك باتجاه المعنيين بهدف تحرير عقارات الساحل من صرامة المعايير المتّبعة، وزيادة نسبة الاستثمار التي لا تتجاوز الـ2.5% في بعض الأماكن. في هذا السياق، ينوّه رئيس بلدية القليلة محمد شمالي بأنّ البلدية توافق من جهتها على رفع نسبة الاستثمار لمن يقدّم لها دراسة عن مشروعه، غير أنّها ليست طبعاً الجهة التي تقرّر إعطاء الترخيص ويقتصر دورها على قبول المشروع أو رفضه.
هل يشتري المستثمر عقاراً مطلاً على البحر بسعر باهظٍ بينما يتعذّر عليه استغلاله؟
بشكل منفرد، وضعت كلّ بلدية مخططاً توجيهياً جديداً يخضع للمعايير المتَّبعة في تصنيف الأراضي، من دون أن تلقى تجاوباً رسمياً مع مقترحاتها. يوضح رئيس بلدية الناقورة عباس عواضة أنّ المخطط المقترح للبلدة يُخضع أصحاب الأراضي لشروط ومعايير صارمة تلزم الاستثمارات والمرافق بالمعايير البيئية، بينما يخفّف من حدّة القرار عبر زيادة نسبة الاستثمار.
غالباً ما يُلحق سوء التخطيط الرسمي، وغياب المتابعة والتعديل على القرارات المتّخذة، الضرر بالمجتمعات المحلية: مشاريع لا تُنفّذ، خطط متخاذلة باسم حماية البيئة، تناقض ما بين الدراسات وأرض الواقع... كلها فجوات حكومية تقضم حقوق المواطنين وتغضّ طرفها عن وجوب تعديل القرارات المجحفة بحق هؤلاء. لا حلول جدية لأي قضية عالقة، وكل تحرّك مطلبي تقابله وعودٌ رسمية بحلحلة قريبة. أدراج الوزارات ملأى باعتراضاتٍ ومطالب ينهشها غبار التطنيش. وهكذا!
الأوتوستراد الدولي: ضرر آخر على العقارات
منذ أعوامٍ طويلة، يقف مشروع الأوتوستراد الدولي الموعود عند منطقة برج رحال، دون أي مؤشر يبشّر بانفراجٍ قريب. والانفراج في هذه المسألة لا ينحصر بإكمال المشروع، إنما أيضاً يحمل في طياته أمنية الإفراج عن عقارات الجنوب «الموقوفة» لهذا السبب. فقد حرم المشروع المجمّد المالكين من الاستثمار فيها أو استغلالها سكنياً من دون أن تدفع الدولة اللبنانية لهؤلاء ثمن الاستملاك «المبطّن» لعقاراتهم. على الأثر، تكثر التعديات على ممرّ الأوتوستراد كبناء مبانٍ سكنية ضمن هذا النطاق. فمثلاً في بلدة القليلة، يمرّ المشروع بمجمع سكني يحوي أكثر من 15 منزلاً مجهول المصير. هذا مثال بسيط من جملة الأمثلة المتعلّقة بهذه القضية. رفض أحد القاطنين هناك اعتبار عملية البناء تعدياً، فهذه أملاكهم الخاصة ولم يحصلوا بعد على ثمن عقاراتهم. تساؤلات عدّة يحملها قرار الإبقاء على مشروعٍ لن يكتمل ما دام الكيان الإسرائيلي موجوداً بمحاذاتنا، بينما يُحرم أصحاب الحق من التصرّف بأملاكهم.
تعليقات: