لا تحتاج عملية التجميد لأكثر من دقائق قليلة تحت تأثير البنج الموضعي (Getty)
"الأمومة تجربة عظيمة، لا يجب علينا فقدانها ما دامت الوسائل الطبيّة متاحة أمامنا"، بهذه الكلمات برّرت فاديا عقيقي (33 عاماً) في حديث خاصّ لـ"المدن" سبب إقدامها على تجميد بويضاتها بعد اكتشافها إصابتها بالمرض الخبيث الذي يُهدّد حياتها وأمومتها في الوقت عينه.
ترغب النساء أحياناً بتجميد الزمن أو إيقافه، كي لا يكبرنَ أو يفقدنَ أنوثتهنَ. وعندما نتحدّث عن الأنوثة، فلا نقصد أبداً الشكل الخارجيّ، بل ما يجول في داخل المرأة من رغبات وأفكار لعلّ الأمومة في طليعتها، إذ أنّها من السمات الغرائزية وشغف عميق لدى معظم النساء.
تحديات الإنجاب المبكر
اليوم، تواجه بعض السيّدات تحديات جمّة في الإنجاب، بسبب تأخر سن الزواج عموماً، وعدم الارتباط، أو بسبب الضغوط الاقتصاديّة، أو ربما نتيجة ظروف خارجة عن إرادتهنّ كالإصابة بالسرطان أو غيره من الأمراض المزمنة، التي تضع إمكانيّة حمل المرأة على المحك، وتُنذرها بإحتمال فقدان شعور الأمومة.
لكن أصبح بالإمكان تخطي هذه الهواجس مع تقدّم الطبّ عموماً، والتقنيات الحديثة المتوافرة في لبنان.
الأمومة بمواجهة السرطان
بدأت فاديا إجراءات عملية تجميد البويضات في تشرين الثاني 2022، حيث قصدت مستشفى جبل لبنان لهذه الغاية، وتضمن ذلك حقن نفسها بمنشطات لتقوية البويضات وتحفيز عملها لمدة 15 يوماً. "قراري بتجميد البويضات لم يكن سهلاً بتاتاً، حتّى أن عائلتي عارضته في البداية، ولكنّني أصرّيت على هذه الخطوة لأنّني أتقدّم بالسنّ، وقد اكتشفت إصابتي بسرطان الثدي. وبالتالي، فإن العلاج الكيميائي الذي سوف أتلقاه قد يُنقذ حياتي من المرض اللعين، ولكنّه على الأرجح سيحرمني من الأمومة التي أحلم بها، وحظوظي بأن أصبح أماً مرتفعة اليوم والباقي يبقى بيد الرب القادر على كلّ شيء"، تقول فاديا.
الحق بالأمومة
فعلياً، هذه ليست المرة الأولى التي تفكر فيها السيّدة الثلاثينيّة بحفظ حقّها بالأمومة، فمع بلوغها سن الـ31، وتحديداً بعد انفجار مرفأ بيروت وتراجع الوضع الاقتصادي والمالي في البلد، بدأت فكرة حفظ البويضات تراودها وزوجها بشكل كبير، حيث قرّرا تأجيل خطوة الإنجاب ريثما تتحسن الأمور أو أقلّه إلى أن يتمكنا من السفر إلى الخارج، لتأسيس حياة كريمة لطفلهما الموعود. إلّا أنّ إصابة فاديا بالسرطان قلبت المعايير وغيّرت الخطط.
تستذكر فاديا المراحل التي قطعتها، وكيف تحضّرت لحفظ بويضاتها، وكيف أن الحقن التي تلقتها تسبّبت في انتفاخ بطنها لبضعة أيّام، كما في تغيير مزاجها. "كنت أحياناً أنفر من زوجي وأنام كثيراً، ولكنني كنت سعيدة جداً، فأنا على استعداد بأن أحقن نفسي طوال العمر لأسمع كلمة ماما مرّة واحدة فقط".
تعيش فاديا مع زوجها حياة سعيدة بعد خضوعها لسلسلة عمليات وعلاجات مكثفة، وترى أن تجميد البويضات سيساعدها في السنين المقبلة على الإنجاب أو أقلّه يمنحها حقّ المحاولة.
لبنان يحتل الصدارة عربياً!
قد تكون فكرة تجميد البويضات مرفوضة بالنسبة للبعض لأسباب دينيّة، أو ربما بسبب هاجس "العذريّة" الذي يُقلق بعض الفتيات من هذه الخطوة. في المقابل، تؤكّد مستشارة العقم ومديرة مختبر أطفال الأنابيب في مركز عازوري الطبيّ، الدكتورة جيسيكا عازوري لـ"المدن" أنّ "نسبة السيّدات اللواتي أصبحن على اطلاع ومعرفة بتقنية التجميد ارتفعت كثيراً في السنوات الماضية. ففي مستشفى جبل لبنان وحده نقوم بهذا النوع من العمليات السهلة، والتي لا تحتاج لأكثر من دقائق قليلة تحت تأثير البنج الموضعي، لنحو 200 سيّدة سنوياً، في حين أن تكلفة العملية لا تتخطّى الـ3000 دولار أميركيّ، مقسّمة بين كلفة العملية التي تبلغ نحو 1500 أو 2500$ تقريباً، وحقن التحفيز التي تتراوح أيضاً بين الـ600 والـ1000$. وتُعتبر هذه العمليات في لبنان الأرخص عربياً ودولياً أيضاً، على الرغم من أنّنا نستعمل أحدث التقنيات. وهذا تحديداً ما جعل لبنان يحتل الصدارة في هذا الشأن، كما لا تحتاج السيّدة إلى المبيت في المستشفى وتحمّل نفقات إضافيّة".
تشرح الدكتورة التي أشرفت على عمليات كثيرة من هذا النوع، في سياق حديثها، الخطوات التي تُتبع عادةً خلال عمليات سحب البويضات وكيفية تجميدها: "عادةً، تلجأ النساء إلى هذا النوع من العمليات لسبَبين، إمّا لعدم تفكيرهنّ أو رغبتهنّ بالإنجاب راهناً، أو لأسباب طبيّة وعلاجيّة كتلك التي تواجهها مريضات السرطان، نتيجة خضوعهنّ للعلاجات الكيماويّة التي تُدمر بويضاتهنّ بشكل كامل، ممّا يمنعهنّ من الحمل لاحقاً، حتّى ولو تعالجنَ من المرض الخبيث. لذا، تخضع السيّدة الراغبة بالقيام بهذه الخطوة لجلسات عدّة مع طبيبها، لإطلاعها على مجريات الأمر ووضعها الصحيّ، بعد القيام بالفحوص الطبيّة اللازمة لمعرفة نسبة الهرمونات ووضع المبيض لديها، في حين يُمكن القيام بالعملية في أيّ يوم من الدورة الشهريّة. وفي حال وافقت على إجراء العمليّة، نبدأ بالتحضيرات اللازمة كإعطائها إبر تحفيز للبويضات، ومن ثمّ نراقب كيفية عمل المبيض ووظيفته بعد التحفيز، عبر الصور الصوتيّة كلّ 3 أيّام لمدّة 15 يوماً، وعندما تصل الهرمونات إلى المعدل المطلوب، يتم الحقن عندئذ بإبر أخرى من أجل إنضاج البويضات، وبعدها نصل إلى المرحلة النهائية، حيث نجمع البويضات وننقلها إلى المختبر، وهناك نختار البويضات الجيّدة ونجمدها، بالاعتماد على "التزجيج"، ويعني تخفيض درجات حرارة البويضات عن طريق التبريد السريع".
هل النتيجة مضمونة وآمنة؟
تُشدّد عازوري في كلامها على أن "عملية تجميد البويضات ليست خطيرة ولا تعرّض حياة المرأة إلى الخطر كما كان يتوهم البعض سابقاً، وذلك لأن التقنيات التي تُستعمل اليوم حديثة وآمنة ولا تتطلب وقتاً أو عناءً". أمّا لجهة ضمانة الإنجاب، فتشرح الطبيبة أن "هذا الأمر لا يُمكن تأكيده بنسبة 100%، لأن عملية التجميد ترفع حظوظ الزوجين بأن تكون أمام المرأة فرصة للإنجاب مستقبلاً ولكن ليس بالضرورة أن يحصل الحمل، وذلك استناداً إلى متغيّرات كثيرة من بينها عمر المرأة، التي أثبتت الدراسات أنّه يلعب دوراً كبيراً في هذا الإطار. إذ أن السيّدة التي تبلغ من العمر 32 عاماً مثلاً تكون حظوظها بالحمل نحو 60% تقريباً، وتضعف هذه النسبة تدريجياً كلّما تقدّمت في السنّ، صحيح أن الرحم لا يعرف عمراً، ولكن خطورة الحمل تُصبح أكبر على حياة المرأة في عمر محدّد، ناهيك عن احتمال حدوث مضاعفات أو تشوّه الجنين بنسبة عالية".
كما لفتت إلى أن التجميد لا يتأثر بعامل انقطاع الكهرباء التي يتخوّف منه كثيرون في لبنان اليوم، إذ يتمّ حفظ البويضات في حاويات تحتوي على مادة nitrogen liquid التي لا تحتاج إلى الكهرباء. هذا وتُشير عازوري إلى أنّه يُمكن حفظ البويضات المجمدة لسنوات عدّة، وذلك عبر تجديد اشتراك الدفع لبنك التجميد في المستشفى، بتكلفة تبلغ 20 دولاراً شهرياً، أيّ نحو 240 دولاراً سنوياً بعد السنة الأولى من تاريخ التجميد.
تطوّر الطبّ اليوم أعطى السيّدات والفتيات غير المتزوجات فرصة لعدم فقدان تجربة الأمومة، ولو كانت متأخرة، بعيداً عن كابوس "العقم" والعمر.
تعليقات: