خلق سلامة بيئة خصبة لكل أشكال المضاربات، والربح السريع والسهل من صفقات مشبوهة (مصطفى جمال الدين)
حتّى لحظة كتابة أولى كلمات هذا المقال، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية قد تجاوز 57,000 ليرة، بارتفاع تتجاوز نسبته 35%، مقارنة بقيمته في بداية هذا الشهر. وقبل أقل من 24 ساعة، كان إسم حاكم المصرف المركزي رياض سلامة يرد –للمرّة الأولى- في عدّة فقرات من بيان وزارة الخزنة الأميركيّة، الذي أعلن عن عقوبات جديدة بحق "الخبير الاقتصادي المزعوم حسن مقلّد"، كما وصفه البيان. وهذه المرّة، جاء ذكر رياض سلامة بوصفه مسؤولاً نقدياً متواطئاً، أعطى مقلّد رخصة لجمع الدولارات لحساب مصرف لبنان، بما مكّن "الصرّاف الفاسد" من "تلقي مئات آلاف الدولارات كعمولات يوميّة"، وفقًا للبيان.
السمسرة على الليرة
لم يكن العارفون بدهاليز سوق القطع، وتدخلات حاكم مصرف لبنان، بحاجة إلى بيان وزارة الخزنة ليعرفوا "الخبير المزعوم" حسن مقلّد وشركته. هي الشركة التي ولدت من لا شيء في منتصف تمّوز 2021، لتتقدّم بعد يوم واحد فقط بطلب رخصة العمل في سوق الصيرفة اللبنانيّة، ولتنال توقيع الحاكم على هذه الرخصة بعد نحو أسبوعين من تأسيس الشركة. شركة واجهة، هبطت على السوق "بالباراشوت" كما يُقال في لبنان، لتصادر حصّة شركة أو. أم. تي. من تداولات مصرف لبنان، وتبدأ بجمع الدولارات لمصلحة المركزي مقابل عمولات خياليّة.
هي واحدة من تلك النماذج المقيتة التي نبتت على هامش الانهيار كالفطر، ليوزّع من خلالها رياض سلامة مغانم الأزمة لمن يملكون النفوذ والقدرة على حمايته، تمامًا كحال الذين استفادوا من الدعم وتهريب السيولة بعد تشرين الأوّل 2019، ومن الهندسات والعمليات الاستثنائيّة قبل ذلك. هي واحدة من تقاطعات المصالح التي نسجها الحاكم بدهاء، بما يفسّر ثباته في موقعه، رغم كل الفضائح التي كان من شأنها هزّ جبال.
في كل أرجاء بيروت، سيصعب العثور على محلل اقتصادي واحد يخبرك عن المعايير التي اختار على أساسها سلامة شركة حسن مقلّد لتجمع تلك الدولار، أو عن المناقصة/المزايدة التي أفضت إلى اختيار هذا "الخبير المزعوم" لهذه المهمّة المربحة. سيصعب أن تعثر على من يخبرك عن سبب خلاف سلامة مع شركة أو. أم. تي.، واستبدال الشركة بشركة حسن مقلّد. إنّه الغموض والعمل في المساحة الرماديّة، بين السوق الأسود المظلم وميزانيّة مصرف لبنان الشرعيّة المعلنة. هي المساحة المفضّلة لدى حاكم المصرف المركزي، الذي تتقفّى أثره سبع نيابات عامّة في أوروبا، فيما يستميت سياسيو لبنان لحمايته، ربما لحماية كل تقاطعات المصالح التي نسجها سلامة معهم.
النتيجة المتوقّعة
حسنًا، هل كان من المتوقّع أن تواجه الليرة مصيرًا غير الذي تواجهه اليوم؟ هل كان المتوقّع أن يبادر الحاكم إلى ما من شأنه أن يضبط سعر صرفها، إذا كان منشغلًا بالسمسرة على أدوات السياسة النقديّة التي بحوزته؟ فتجربة اللبنانيين، التي عاينوها بأصعب الطرق مع أصحاب المولدات الخاصّة مثلًا، تخبرهم أن إيجاد الحلول لأزمة ما في لبنان يصبح صعبًا، متى ولدت المصالح الخاصّة في السوق غير الشرعيّة، على هامش هذه الأزمة.
على هذا النحو، ولدت منصّة صيرفة، التي لا يعلم سوى الله كيف يشغّلها حاكم المصرف المركزي ويحدد سعر صرفها، وكيف يشتري ويبيع عشرات أو مئات ملايين الدولارات يوميًّا من خلالها، من دون أن يتمكّن اللبنانيون من استيراد قطرة بنزين بسعرها المعلن. كان من المفترض أن تكون هذه المنصّة بالتحديد وسيط التداول الشرعي والمنظّم، لتعويم وتوحيد أسعار صرف الليرة، ومن ثم تنظيم تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع. ثم تحوّلت هذه المنصّة إلى عالم أسود، نسمع أخباره المظلمة من لوائح العقوبات الأميركيّة.
وثمّة من يقول، وهو محق، أنّ الحاكم استنفد أدوات التدخّل في السوق، بعدما جفف ما يمكن تجفيفه من ليرات، وضغط على احتياطاته بالحد الأقصى. وهذا يقودنا إلى حقيقة أخرى، مفادها أن المعالجة النقديّة لن تستقيم من دون الحل الأشمل، الذي يمر بإعادة هيكلة المصارف ومعالجة خسائر القطاع، وإعادة هيكلة الدين، وغيرها من أدوات الحل التي حفظنا عناوينها جيّدًا. لكنّ ذلك يأخذنا مجددًا إلى الدور الذي لعبه الحاكم في عرقلة كل هذه الحلول، لمصالح وحسابات نعرف عناوينها جيّدًا. وفي هذا الأمر، كان سلامة يسمسر وينسج أيضًا جانبًا آخر من تقاطعات المصالح، التي تحميه اليوم في منصبه.
أدوات الحل بعيدة
لن يكون من الصعب توقّع مآل الأمور بالنسبة إلى سعر صرف الليرة على المدى المتوسّط. ما رفع سعر الدولار من 1500 ليرة إلى 38 ضعف هذه القيمة، سيكون قادرًا على رفع سعره إلى أضعاف هذا المبلغ. وخلال الوقت الضائع، سيكون بإمكان الحاكم إطلاق بيان من هنا، أو تعميم من هناك، وفرملة انهيار سعر صرف الليرة لأيام، قبل أن يعود سعر الصرف إلى مساره المعتاد منذ ثلاث سنوات. وفي الوقت الضائع أيضًا، ستكون البيئة خصبة لكل أشكال المضاربات، والربح السريع والسهل، من صفقات مشبوهة كتلك التي عقدها الحاكم مع شركة مقلّد، وقبلها شركة أمل أبو زيد (أو. أم. تي.).
في الوقت الضائع أيضًا، ستكون جميع الحلول مرهونة بالخطّة الشاملة، المحالة إلى التقاعد في الوقت الراهن، بعدما وجدت المنظومة السياسيّة قسوة شروط صندوق النقد وحلوله على مصالحها، وبعدما وجدت أن طريق الحل الفعلي سيمس بما لا يفترض أن يتم المس به. أمّا أخطر ما في الموضوع، وكما تعلّمنا من حسن مقلّد نفسه، أن هناك من أدرك كيف يجعل من الانهيار فرصة، ومن مأساة اللبنانيين مساحة للربح والكسب السريع. وهذه الحقيقة بحد ذاتها، ستحول –ولوقت طويل- دون إيجاد الحلول.
تعليقات: