أهراء القمح في مرفأ بيروت
امرأة بمئة رجل بعطائها وبِرّها لوالدها. لم تفكّر في نفسها وفي ما تحبّ، إنّما بأبيها. اختارت عملاً شاقّاً، يُهيمن عليه الذّكور، كي لا تحتاج إلى مدّ يد الاستجداء إلى أحد. لكن الأهمّ من كلّ ذلك أنّها حافظت على ابتسامتها وإيجابيّتها بالرغم من كل الصعاب التي أحاطت بها...لأنّها امرأة تحمّلت.
منذ انفجار المرفأ، أُصيبت عينا والد هنادي (اسم مستعار) ورجلاه. لم تجدّ الفتاة سوى أن تستلم بنفسها قيادة سيّارة الأجرة خاصّته، لتُعيله ووالدتها، إذ لم يكن هناك أيّ خيار متاح سوى هذا الخيار، "فلا مُعيل لأهلي سواي" تقول هنادي. فهي نذرت وقتها وجهدها لوالديها فقط، وحتى مردود السيارة الذي بالكاد يكفي بسبب ارتفاع أسعار البنزين، يذهب إلى أهلها فقط، لكنّه يبقى أفضل من سؤال الناس، فـ"اللي ما في خير لأهلو ما في خير لحدا"، تقول هنادي.
تعمل هنادي أساساً بصناعة الصابون، وتعلّم هذه المهنة. هي أمّ لأربعة أولاد (أعمارهم توالياً: 19 عاماً، 17 عاماً، 15 عاماً، 10 أعوام)، لكن واجباتها المنزلية والأسرية لم تثنيها عن برّ والدها، "ولأكون نظره ورجليه"، تروي لـ"النهار". هي تصرّ على أن يرافقها والدها في جميع جولاتها في السيّارة. ذاكرته جيّدة جداً، وهو خلال جولاتها، يدلّها على طُرقٍ كثيرة لا تعرفها. تتقصّد هنادي مرافقته كيلا تتراجع ذاكرته ويفقد قدرته الذهنية. "لا يمكنني أن أفكّر بنفسي أو بأسرتي إنّما بأبي"، فهو لولا انفجار المرفأ لكان رجلاً عمليّاً ونشيطاً ومسؤولاً عن أسرة، وكان من الصعب عليه التزام المنزل لولا إصابته.
أمّا زوجها، وبالرغم من اضطرارها للغياب طوال فترة قبل الظهر عن المنزل، والذي لم يتقبّل الفكرة أولاً، عاد وتفهّم ضرورة المضي بها، وقدّم يد التعاون معها. وما بين العمل الشاقّ الذي انتظر هنادي وبين مساعدتها لوالدها وبُعدها عن المنزل، اختار زوجها برِّ والدها.
كما هو معلوم، يتبادل الناس الأحاديث المختلفة والمتنوّعة مع سائق التاكسي أو الحلاق بكثافة. وسائقو التاكسي في لبنان "بارعون جداً في الحديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع والطبّ وجميع المجالات"، فهم يسلّون أنفسهم وركّابهم بهذه الأحاديث. لكن هنادي لم تدخل في "نادي سائقي التاكسي"، فهي تبتعد عن الحديث في السياسة ولا تنجرّ إليه. تستمع لشكاوى الناس وهمومهم التي يطغى عليها الوضع الاجتماعي الاقتصادي بحسب قولها.
وبالرغم تعرّضها لهذا الكمّ الكبير من الأخبار المضنية، تستمع هنادي، وتحاول جهدها عدم التأثّر، "أحياناً أعود إلى المنزل ونفسيّتي متعَبة ممّا سمعته خلال اليوم، لكنّني أواسي نفسي وأتمسّك بالأمل، فلا حياة لولا فسحة الأمل، وأنا مقتنعة أنّ غداً سيكون أفضل، فالحياة لا تقف في مكان معيّن"، تردّد هنادي.
على خاصية الـstatus على الواتساب، كتبت هنادي، السيدة الأربعينيّة، العبارة الآتية: "ضحكتي وعلى الدنيا السلام". فعلاً، وجهها البشوش لدى حديثنا معها، ومنذ اللحظة الأولى، أكّد اقتناعها بهذه المقولة. فهي تبتسم من قلب الظلمة المُحاطة بنا، ومن قلب تعبها، فوفق وصفها "أنا شخص مرِح ومقبِل على الحياة، والعمر الحقيقي ليس بعدد السنين إنّما بمدى سعادة الشخص في حياته".
بداية، تردّدت هنادي، ولم تقدم على قيادة سيارة الأجرة تأثراً بنظرة الناس تجاه هذا الأمر، ولم يتقبّل الكثير من الركاب هنادي كقائدة سيّارة، لكونها أنثى. لكن الوضع اختلف الآن، والناس يعون أكثر فأكثر غياب الفرق بين الرجل والمرأة في هذه المهن!
في الأيام العادية، لا نرى سائقاً بوجه بشوش غير متذمِّرٍ أو شاكٍ. فهل يعود سبب بشاشة وجهها إلى كونها امرأة؟ تقول السيدة إنّ قيادة التاكسي ليس عملاً سهلاً بل عملاً شاقاً نفسيّاً وجسديّاً، يختلط من خلاله السائق بأشخاص كثيرين، "لكنّني من الأشخاص المتفائلين دائماً، هذه طبيعتي".
وفي ظل الوضع الأمني الراهن، تنقل هنادي خوف بعض الركاب وتردّدهم لدى استقلالهم سيّارتها، بسبب خشيتهم من كونها "سيارة غير شرعية"، ويخالون أنّها منتحِلة صفة لغايات أخرى. لكنّها تشرح لهم وتطمئنهم إلى أنّ ما تفعله هو لأجل والدها. وهناك أشخاص يطمئنّون أكثر للتعاون مع هنادي لكونها امرأة، فيعهدون إليها بنقل طالبات جامعيّات.
وبالرغم من أنّها تستخدم السيارة منذ نحو سنتين ونصف، تكشف هنادي أنّها لم تهوَ هذا العمل بتاتاً.
تعليقات: