تاريخ النهضة في جبل عامل(2): رضا الصلح باعث النهضة ومحركها


سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.


ذكرنا في المقال السابق انه في نهاية القرن التاسع عشر، شهد جبل عامل نهضة علميّة انعكست على المدرسة الدينيّة من خلال تطوير أساليب التدريس وطرائق التفكير التي كانت سائدة طوال عصور الانحطاط.هذه المدارس وان كانت قد ساهمت في التأسيس للنهضة مع بروز عدد كبير من الادباء والشعراء في زمن كانت الأمية متفشية والتعليم عبارة عن مبادرات فردية، فإن الحاجة اصبحت ملحة الى إنشاء مدارس حديثة في جبل عامل، على نسق مدارس الارساليات التي افتتحتها فرنسا واميركا وبريطانيا في عدد من المناطق اللبنانية المسيحية، أو شبيهة بالمدارس والمعاهد التي كانت افتتحتها السلطنة العثمانية في العاصمة بيروت تحيدا.


ويقول محمد جابر آل صفا (1870 ـ 1945) في كتاب “تاريخ جبل عامل”، ويؤكد “أن النهضة الفكرية العاملية بدأت في سنة 1883، ففيها فُتحت في النبطية أول مدرسة أهلية على المناهج العصرية، وقد وضع أساسها وسهّل أسبابها الزعيم الوطني الخالد المغفور له رضا بك الصلح”، والد رياض الصلح أول رئيس وزراء بعد استقلال لبنان عام 1943.


من هو رضا الصلح؟

ولد عام 1860م في مدينة صيدا عاصمة جنوب لبنان حاليا، وهو من سكان بيروت وأعيانها. وكان والده أحمد باشا الصلح من أعيان المدينة وقد تولى مناصب حكومية مهمة.


افتتح رضا الصلح أول مدرسة أهلية على على المناهج العصرية الحديثة


تولى رضا الصلح عدة مناصب في الدولة العثمانية منها متصرف اللاذقية ورئيس قائممقامية النبطية في جبل عامل، وأيام حكومة الأمير فيصل في دمشق وفي عهد الإنتداب الفرنسي أيضا، انتخب عضوا في مجلس المبعوثان عن ولاية بيروت عام 1909 ميلادي، واشترك في تأليف حزب الحرّ المعتدل في مصر،اشترك في تأليف حزب الحرية والإئتلاف في الأستانة.

كان مناوئا للإتحاديين الأتراك فنفوه مع ولده رياض إلى الأناضول إبّان الحرب العالمية الأولى من العام 1916 إلى العام 1918 ميلادي، وعند دخول الجيش العربي الى دمشق انتخب ممثلا عن صيدا في المؤتمر السوري العام 1918 – 1919، الذي بايع الملك فيصل ملكا عربيا على بلاد الشام، وعيّن وزيرا للداخلية في الحكومة التي شكلها الملك فيصل الأول في دمشق عام 1920م، كما عيّن رئيسا لمجلس الشورى في سوريا أيام حكومة الملك فيصل الأول فيها مارس 1920 – يوليو 1920. توفي في العام 1935 ميلادي.

ثم تولى نجله رياض الصلح رئاسة الوزراء عدة مرات بين أعوام 1943–1951. وتكاد أسرة الصلح هي الأسرة السنية الوحيدة التي تولى أربعة منها رئاسة الوزراء وهم الرؤساء: سامي الصلح، رياض الصلح، تقي الدين الصلح، رشيد الصلح.


الصلح يصلح الادارة والتعليم

هذا التاريخ لبدء النهضة أكدته المؤرخة الفرنسية صابرين ميرفان في كتابها “الاصلاح الشيعي” فقالت: يؤرخ بعض الكتاب أوائل النهضة في جبل عامل بسنة 1882، أي 1300 للهجرة؛ لأنها شهدت افتتاح أول مدرسة من النمط الحديث في النبطية.

وقد كان العثمانيون يهدفون بواسطة التنظيمات إلى تطوير سياستهم الإدارية وعقلنة تنظيم المناطق. وانطلاقاً من هذا المبدأ، أصبحت بلدة النبطية قائمقامية صغيرة، فعَيّن حمدي باشا حاكم ولاية دمشق رضا الصلح على رأسها؛ وكانت إلى ذلك الحين مديرية، وقد بنى رضا الصلح بناء إدارياً وشكّل مجلساً بلدياً وعيّن الموظفين فيه.


كان رضا الصلح مناوئا للإتحاديين الأتراك فنفوه مع ولده رياض إلى الأناضول إبّان الحرب العالمية الأولى


بالإضافة إلى ذلك، فإن الإصلاحات العثمانية قد مهدت لظهور الوجهاء، وكانوا من التجار البرجوازيين المدينيين أو من الموظفين في الإدارة العامة، وكان على هؤلاء أن يؤمنوا لأولادهم تربية وتعليماً حديثين طامحين بذلك إلى تكاثر جماعتهم أو إلى تأمين ترقيها الاجتماعي، على أن جبل عامل، فيما خلا الإرساليات المسيحية، لم يكن فيه من المؤسسات التعليمية غير الكتاب والمدارس الدينية.

ولذلك فقد قرر رضا الصلح سنة 1882 أن ينشئ مدرسة حديثة في النبطية، افتتحت بعد سنتين من ذلك، وكان يأتي إليها بنفسه يومياً ويحضر بعض الدروس، وكان بمقتضى ما يقول محمد جابر آل صفا، “يبث بين الطلاب الروح القومية، ويجعلهم يتمرنون على الخطابة بين يديه في مواضيع اجتماعية وشؤون وطنية”، وكان المعلمون الآتون من بيروت وطرابلس، يدرسون النحو والصرف والأدب العربي والتاريخ والجغرافيا، واللغة التركية التي كانت اللغة الرسمية، وكان في المدرسة ستون تلميذاً.

وبهذا اصبح بإمكان التلامذة الذين قاموا بدراستهم الابتدائيّة أن يبدأوا بالمرحلة الثانوية في صيدا أو في صور إما على النظام التركي أو على نظام الإرساليّات، وكان عليهم بعد ذلك أن يذهبوا إلى بيروت إلى الكليّة الإنجيلية بالتحديد، أو إلى معاهد إسطنبول، إلا أن القليل منهم كانوا يصلون إلى هذه المرحلة.

هذا ورد في السيرة العلمية والادارية للزعيم رضا الصلح، الذي كان له الاثر الابلغ في تطوير المعارف العلمية والتربوية في جبل عامل عندما تسلم ادارة قائمقامية النبطية، دون النظر الى الاختلاف المذهبي او المناطقي بين صيدا السنية التي ينتمي اليها رضا الصلح والنبطية الشيعية التي أخلص في رعايتها وتنظيم ادارتها، وأسّس مدرستها الرسمية على منهاج حديث ادخل فيه الرياضيات وعلوم الأحياء والفيزياء والكيمياء، ما جعل أحد اعلام النهضة المؤرخ محمد جابر ال صفا يصفه بالزعيم الخالد، خصوصا وانه تتلمذ على يديه في هذه المدرسة العظيمة هو ورفاقه النهضويين، وبهذا نستطيع ان نفهم لماذا يؤرخ المستشرقون ان نهضة جبل عامل بدأت من مدينة النبطية على يد زعيم صيدا رضا الصلح.


* المصدر: janoubia.com

اقرأ أيضاً:

تاريخ النهضة في جبل عامل(1).. تجديد الحوزات وبروز رجال دين مصلحين

تاريخ النهضة في جبل عامل(2).. رضا الصلح باعث النهضة ومحركها

تاريخ النهضة في جبل عامل(9): رضا التامر خريج السوربون يخترق القضاء ويحوز المناصب

تاريخ النهضة في جبل عامل(12).. لبيب غلمية وفؤاد جرداق ينهضان بمرجعيون وحاصبيا

 صورة مدرسة النبطية التي اسسها رضا الصلح
صورة مدرسة النبطية التي اسسها رضا الصلح


تعليقات: