القطاع العام والفساد المطلق: 48 ألف موظف بالمحسوبيات

هناك موظفون يتقاضون رواتب للعمل في مؤسسات لا تعمل أصلاً (علي علوش)
هناك موظفون يتقاضون رواتب للعمل في مؤسسات لا تعمل أصلاً (علي علوش)


يعتكف جوزيف الحلو (52 عاماً) في منزله منذ أشهر، رافضاً الذهاب إلى عمله في إحدى دوائر العقارات في لبنان. يقول لـ"المدن": "لافائدة من الذهاب إلى العمل، في ظل الفوضى الحاصلة في مؤسسات الدولة، مع غياب أي أطر لتسيير المرفق العام، وإهمال مستمر من السلطات السياسية لوضع الموظف المهني والمادي".

يعاني موظفو القطاع العام في لبنان من أزمة متعددة الجوانب، بالإضافة إلى انهيار قيمة الرواتب بشكل كبير، فإن الفساد والمحسوبية والرشاوى، ونقص المعدات اللوجستية، تشكل مجتمعة، عوائق أمام إمكانية أداء العمل بالشكل السليم، وهو، ما ينعكس بالدرجة الأولى على الموظفين، والمواطنين، والإيرادات الحكومية.

يقول الحلو: "لا يمكن لأي موظف يتقاضى ما بين المليون أو مليوني ليرة، أن يتمكن من الذهاب إلى العمل، إذ بات الراتب لا يوازي في أحسن الأحوال قيمة "كروز دخان"، بعدما وصل سعر الصرف إلى 62 ألف ليرة، ما يعني أن راتب الموظف لا يتخطى حاجز 20 دولاراً.

فمنذ أشهر، أقفلت الدوائر العقارية أبوابها، ولا يمكن للمواطنين إنجاز أي معاملة عقارية، لا لناحية تسجيل عقار جديد، أو لبيعه، أو لإصدار أي وثائق. الأمر لا يقف عند إقفال الدوائر العقارية، بل جميع المؤسسات الرسمية معطلة تقريباً، ليس فقط بسبب الإضراب، ولكن لعدم قدرة الموظفين على إنجاز المتطلبات، في ظل النقص في المواد الأساسية، حسب ما تؤكده نوال نصر رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة . تقول لـ"المدن": "الوضع العام في الإدارات العامة سيء إلى أبعد الحدود، ولا يمكن لأي موظف ممارسة مهامه، في ظل عدم اكتراث السياسيين لمتطلبات العمل في الحكومي". تضيف: "يواجه الموظف اليوم كم هائلاً من الضغوط، لا يوجد أي أدوات لتنفيذ المهام الموكلة إليه، ولا قرطاسية، أو أوراق عمل، ولا يوجد ميزانيات لشراء مواد تنظيف المكاتب، حتى التدفئة في فصل الشتاء غير متوفرة، ويغيب التيار الكهربائي عن الإدارات لأيام، فلا يمكن حتى استخدام الحواسيب الإلكترونية، لتسجيل المراجعات أو تدقيقها". وتسأل، "كيف يمكن للموظف العمل في هذا الوضع".


معضلة أساسية

صحيح أن هذه الظروف تسارع في انهيار القطاع العام، لكن عوامل جوهرية ساهمت في إيصال القطاع إلى ما هو عليه اليوم. تقول نصر "يعاني القطاع العام في لبنان من مشاكل بنيوية، بسبب ارتفاع عدد العاملين نتيجة المحسوبيات والطائفية، بالإضافة إلى تشعب نطاق عمل المؤسسات المستقلة والعامة، ما زاد من الأعباء المالية على القطاع العام".

بالأرقام، ووفق بيانات نشرتها الدولية للمعلومات، يضم القطاع العام بالإضافة إلى الوزارات والمؤسسات المدنية والعسكرية، نحو 96 مؤسسة عامة، معظم الدوائر خارج العمل أساساً، على غرار مصلحة سكك الحديد، في حين يتقاضى الموظفون رواتب للعمل في مؤسسات لا تعمل أصلاً، وهو ما شكل نواة ضعف القطاع العام.

حسب نصر، لعبت المحاصصة دوراً في توسيع نطاق عمل المؤسسات في القطاع العام، حيث أراد الساسة في لبنان تقسيم الدوائر في القطاع العام على أساس الطائفية للحفاظ على التوازن، ما أدى إلى اتساع رقعة التوظيف، فبات لدينا فقاعة من الوظائف الفارغة، التي تستنزف ميزانيات الحكومة.

وبنتيجة ذلك، تضخم عدد العاملين في القطاع الحكومي. إذ يعمل ما يقارب من 320 ألف موظف، مابين الأسلاك المدنية والعسكرية والتعليم. وهذا الرقم الكبير بطبيعة الحال، يشكّل قرابة 25 في المائة من مجمل اليد العاملة في لبنان، وهو السبب الثاني لانهيار القطاع. إذ من غير المنطقي أن يكون ربع اليد العاملة اللبنانية منخرطة في وظائف حكومية، في حين تشكّل اليد العاملة في القطاع العام في الدول المتقدمة، نحو 10 في المائة فقط، ما يعني أن نحو 15 في المائة، أي نحو 48 ألف موظف يتقاضون سنوياً ما لايقل عن 860 مليار ليرة من دون الحاجة إليهم أصلاً.


إعادة الهيكلة

لا تنفي نصر بإن هناك حاجة ضرورية لإعادة هيكلة القطاع العام، لكن هذه الخطوة تفتح المزيد من الأعباء على الحكومة في الوقت الراهن، في ظل غياب الإيرادات المالية، وعدم قدرتها على صرف الموظفين وتسديد مستحقاتهم.

وتتطلب إعادة هيكلة القطاع العام في لبنان، للخروج من أزمته الحالية، خفض نسبة اليد العاملة إلى النصف تقريباً، وإغلاق العديد من المؤسسات العامة غير الفعالة، أو دمجها مع مؤسّسات أخرى، ووضع خطة لوقف الهدر والفساد. تقول نصر "على الرغم من غياب أي إحصاءات أو أرقام دقيقة حول حجم الفساد في القطاع العام اللبناني، لكن هذه المشكلة شكلت سبباً في انهيار المؤسسات".

في العام 2019، ووفق قياس تصور الفساد الصادر عن شبكة أبحاث باروميتر العربية، تبين بأن 91 في المئة من المواطنين اللبنانيين يعتقدون ويؤمنون بأن الفساد منتشر في القطاع العام، وأظهر حينها المؤشر، أن 25 في المئة يعتبرون الرشوة أساسية لحصول الجمهور على الخدمات العامة، وبيّن المؤشر حينها، أن جميع القطاعات، وعلى رأسها القطاعات التي توفر خدمات صحية، وخدمات تعليمية، بالإضافة إلى الخدمات المالية، هي في مقدمة القطاعات التي يضطر فيها المواطن لدفع رشاوى حتى يتمكن من إنجاز معاملته.

وصل الفساد إلى أعلى مستوياته على الإطلاق في لبنان ، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي أنتجت فقرًا وانعدامًا للمساواة بشكل غير مسبوق. وقد تمت الموافقة على العديد من قوانين مكافحة الفساد في السنوات الماضية، لكن تنفيذها لا يزال يمثل إشكالية، إذ تؤثر القضايا الهيكلية، مثل انخفاض الشفافية العامة، وسيطرة الأحزاب السياسية على عمل الإدارات، بشدة على فعالية هذه الإصلاحات. ولذا، فإن القطاع العام لم يتمكن من مواجهة تبعات الأزمة الاقتصادية، وكان أبرز المؤسسات التي انهارت في ظل الأزمة الحالية.

تعليقات: