البلدية والشرطة أعلنتا الحرب على حشود المتسولين في الحمرا

ظاهرة تضخم أعداد المتسولين صاحبتها أزمة حقوقية وإنسانية كبرى (Getty)
ظاهرة تضخم أعداد المتسولين صاحبتها أزمة حقوقية وإنسانية كبرى (Getty)



لم تغفر له هيئته المهلهلة ذنبه الجسيم أمام الشرطيّ. فالمتسول الصغير، هزيل الجسم، باهت السحنة، وسوريّ اللكنة، قام بوقاحة بملاحقة السّيدة ذات الحقيبة المزخرفة بـ"شانيل"، على امتداد أربعة أمتار من شارع الحمرا المزدحم، إلى أن تمكن الشرطي الفذّ والشاطر برصده من على دراجته النارية، ومن تحت نظارة "الراي بون" المقلدة، قطب حاجبيه وصرخ ساخطًا بالمتسول: هاي، أنت، إرحل فورًا، وإلا حملتك ورميتك كالخردة آخر خلدة.. على مسمع السيدة التّي التفت مبتسمةً للشرطي الفخور الذي أنقذها من براثن الخبيث المتربص بها. بالتوازي، وفي زاوية رطبة من البيت المؤلف من غرفة واحدة يتنفس فيها رضيع وثمانية أشخاص الهواء المتخثر، وتحت درج عمارة عشوائية، يروي المتسول الصغير لأخته ما حدث معه، وينبهها من هذا الشرطي اللئيم الذي عادةً ما يركن دراجته الفضية أمام أحد المصارف في شارع الحمرا، وينصحها ببيع ورودها في المقهى أول الشارع، حيث تكثر الغلّة ويقلّ الدرك.


لم تتمكن الدولة اللبنانية بأجهزتها الأمنية أو الاجتماعية أو حتّى بسلطاتها المحلية عبر السنوات، من وضع خطة تسلسلية متكاملة لوقف ظاهرة التسول في العاصمة، ولا نعني بوضع خطة، بسحبهم من الشوارع بهمجية موصوفة كما اعتادت أن تفعل. بل نعني حرفيًا، اتخاذ إجراءات فعلية لرفع الفاقة الاقتصادية عن هؤلاء أو إنشاء مراكز لإيداعهم فيها مثلاً، أو مكافحة العصابات المشغلة لهم. بل راكمت الدولة اللبنانية تقصيرها وتهميشها الفوقيّ لهؤلاء مرارًا، وأخرها كان منذ أسبوعين في اجتماع محافظ بيروت مروان عبود بعدد من المسؤولين الأمنيين والسياسيين والنقابيين، لمعالجة "ظاهرة التسول في شارع الحمراء".


ظاهرة التسوّل

بتاريخ 18 كانون الثاني من العام الجاري، التقى القاضي مروان عبود في مكتبه في القصر البلدي، بكل من العقيد عماد دمشقية مترأسًا وفد ضباط من الأمن العام، وقائد فوج حرس بيروت العقيد الركن علي صبرا، كذلك رئيس لجنة تجار شارع الحمرا زهير عيتاني ونائبه محمد الريس، وغيرهم.. ذلك للتباحث في "الأوضاع التي آل إليها شارع الحمراء وتفرعاته، جراء تفاقم ظاهرة التسول وحالة التفلت والعمالة غير الشرعية وغيرها من الأمور، التي ترخي بظلالها على المحال والمؤسسات والمطاعم في شارع الحمراء، حيث تم الاتفاق على اتخاذ إجراءات صارمة من شأنها أن تعيد الحياة والنظام إلى الشارع المذكور. كما سيتم تنفيذ يوم أمني (غير معلن) على طول امتداد شارع الحمراء الرئيسي وتفرعاته".

هذا القرار النابع أساسًا من رغبة غالبية سكان المنطقة وأصحاب المصالح التجارية فيها، وحاجتهم الملّحة للاستقرار والتنظيم، قد أماط اللثام عن أزمة لم تعالج جوهريًا قط. فمن جهة، أعداد الأطفال العاملين والمتسولين هي بارتفاع مطرد منذ بداية الأزمة وما قبلها أي بالتوازي مع انطلاقة الحرب السورية، وتوافد جماعات ضخمة من اللاجئين والمهجرين. هذه الظاهرة صاحبتها أزمة حقوقية وإنسانية كبرى. فهؤلاء الأطفال هم خارج المدارس، ومؤتمرين لراشدين يستغلون حاجتهم المادية في غالبية الأحيان، كما بوصفهم فريسة سهلة للاستغلال الجنسي والجسدي. أما الراشدين من المتسولين فهم بغالبيتهم يعيشون أسوأ أشكال المهانة الاقتصادية. ما يطرح بحدّ ذاته معضلة أخلاقية. ومن جهة ثانية، فإن هذا التواجد الضخم والدائم، قد أسهم في ضرب سمعة الشارع، وأضرّ بالمصالح التجارية، فضلاً عن ازدياد عمليات النشل والسرقة والإشكالات بين المجموعات المتسولة، الأمر الذي تحول لاحقًا إلى مأزق لوجيستي وأمني، جعل الشارع موقعًا خطرًا على مدار السّاعة، يتهدد المارين فيه إمكانية التعرض لأذية أو اعتداء بصورة دائمة.

ليس جديداً انتشار هذه الظاهرة ورواجها في الشوارع اللبنانية العمومية وخصوصاً في شارع الحمرا الأكثر ازدحامًا وشعبية عند الوافدين والمقيمين، لتنوع محاله ودور الترفيه فيه من مطاعم ومقاهي وملاهي ومسارح وذلك على مقلبيّ الشارع المرصوف، بالإضافة لتوزع عدّة مستشفيات ضخمة ومشهورة كالجامعة الأميركية، وتمركز عدّة وزارات ودوائر رسمية ومصارف فيه، ما جعله محط شعبية لدى طالبي "الإحسان العام"، خصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصادية التّي أرخت بوطأتها على فقراء لبنان، ما اضطر بعضهم للجوء إلى هذا الخيار مرغمين، لا لتواجد خيارات أخرى. بينما نعجز عن وضع إحصاءات دقيقة لهؤلاء فضلاً عن أعداد الموقوفين منهم عند الأجهزة الأمنية، التّي أشارت في حديثها مع "المدن" أن لا أرقام دقيقة.. لكن الأعداد ضخمة، وعادةً ما تتم التوقيفات بموجب رصد لعدد من الحوادث الجرمية وغالبيتها من الجنح، كالنشل والسرقات.


بلدية بيروت

في حديثه مع "المدن" يُشير أحد أصحاب المصالح التجارية في شارع الحمرا الرئيسي إلى تداعيات هذه الظاهرة التّي أصحبت أزمة على حدّ قوله: "بداية كان لهم تواجد في شارع الحمرا وتفرعاته، وقبل الأزمة كان المواطنون يساعدونهم قليلاً، أيام الوفرة القديمة، أما اليوم فتضاعفت أعدادهم كثيرًا، لدرجة أنك لا تسلم منهم، حتّى لو كنت داخل المحل تبتاع أو في السيارة، ناهيك عن السير على الأقدام في الشارع". يُضيف: "بتنا نتعاطى معهم بعنف لا لأننا غير إنسانيين، الأزمة على الجميع، لكن العشرات يتجمهرون يوميًا أمام محالنا ويضربون مصالحنا، فيما الناس يتفادون الدخول بسببهم". فيما عبّر السّكان مرارًا عن امتعاضهم وتبرمهم من هذا الوضع، وسط مطالبات شعبية جمة انسحبت لتظاهرات ووقفات احتجاجية كما حصل في غضون السنة الآفلة، استجابت بلدية بيروت لمطالبهم، عبر وضع خطط ترقيعية ومؤقتة في أحسن الأحوال. فغالبية هذه الخطط تضمنت أياماً أمنية غير معلنة، تخللها مشاهد عنف بوليسي. فالأطفال كانوا يحملون في السيارات ويتم إيداعهم في مناطق جنوبية كخلدة والدامور إن لم يعتقلوا في سجن الأحداث. أما الراشدين منهم فيتم توقيفهم أو تهديدهم، وغالبًا ما يتم طردهم من الشارع. فيما أشارت مصادر في بلدية بيروت أن هؤلاء المتسولين تقف ورائهم عصابات إجرامية تحثهم على استجداء الاحسان العام وتفرض عليهم ما هو شبيه بأتاوة.

اعتبر المشرع اللبناني أن التسوّل جريمة وعقوبتها منصوص عنها في المادة 610 وما يليها من قانون العقوبات. فمن كانت له موارد، أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل، واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان، إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية، عوقب بالحبس مع التشغيل لمدة شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر. وعليه تشير مصادر أمنية "للمدن" أن التوقيفات بجرم التسوّل هي دورية. وفيما تتضارب الآراء في هذا السياق من جهة كون هذا الموضوع يطرح معضلة أخلاقية، فإننا لا نقوم سوى بتطبيق القانون لتنظيم الشوارع. وفي خضم الأزمة الأمنية المستفحلة باتت الكثير من الجرائم الجناية متسترة تحت شماعة التسوّل. ونرى أنه من الضروري وضع حدّ لهذه الظاهرة التّي استنزفت العاصمة وجعلتها غاصة بالمجرمين والأحداث.

شارع الحمرا الشهير وعلى شاكلته باقي الشوارع السياحية والتجارية المعروفة في العاصمة، بلغ فيها الانحطاط الطبقيّ المقرون بالأزمة المستفحلة على كافة الصعد، حدّ التدهور الجليّ في سمعتها العريقة. فأينما حطت بك الرحال في بيروت، يتربص بك شبح الانهيار بوطأته المهلهلة، متقمصًا أحد بائعي الورود من الأطفال يستجدي ورقة "الألف ليرة"، أو رجلاً يبيع "العلكة" على ناصية الشارع، فيما تتربع فوقه لافتة "أنا لبناني، والشغل مش عيب".

تعليقات: