إضراب المصارف: عصافير كثيرة بحجر واحد

خلق الإضراب المصرفي واقعًا متأزّمًا مستجدًا
خلق الإضراب المصرفي واقعًا متأزّمًا مستجدًا


كثيرًا ما يُشار إلى المثل العامّي المعروف، "عصفورين بحجر واحد"، للإشارة إلى الفكرة التي تمكّن صاحبها من تحقيق هدفين بخطوة واحدة. اليوم، يبدو أن جمعيّة المصارف اختارت ضرب عصافير عدّة في وقت واحد، من خلال إضرابها المفتوح المستمرّ حتّى اللحظة، والذي أفضى إلى إقفال الفروع المصرفيّة في مختلف الأراضي اللبنانيّة.


أبعد من القرار القضائي

في الشكل، اختارت المصارف أن تطلق إضرابها بعد قرار محكمة التمييز، الذي فرض على مصرف فرنسبك سداد وديعتين لا تتجاوز قيمتهما 100 ألف دولار، بالدولار النقدي لا الشيكات المصرفيّة. وبذلك، حاولت الجمعيّة ربط خطوة الإقفال الشامل بما تعتبره "مظلوميّة" تطالها جرّاء هذه القرارات القضائيّة.

لكن من الناحية العمليّة، بات من الواضح أن هدف الإضراب لن يقتصر على منع صدور قرارات قضائيّة مماثلة في المستقبل. إذ تسعى جمعيّة المصارف اليوم إلى فرض عدد من الإجراءات على أجندات السلطات التشريعيّة والنقديّة والتنفيذيّة، تحت ستار الاحتجاج على قرار صادر عن السلطة القضائيّة.

تشريع الضرورة والكابيتال كونترول

في الوقت الراهن، يدرس رئيس المجلس النيابي بحذر فكرة الدعوة لجلسة عامّة تحت عنوان "تشريع الضرورة"، في ظل المؤشّرات التي توحي بأنّ نصاب جلسة كهذه لن يكون مضمونًا، كحال جلسات مجلس الوزراء. فرغم وجود سوابق أقرّ فيها المجلس مجموعة من قوانين "تشريع الضرورة"، خلال فترة الفراغ الرئاسي التي سبقت انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة، لا يبدو حتّى اللحظة أنّ هناك غالبيّة نيابيّة مقتنعة بوجود ملفّات تشريعيّة داهمة تستدعي عقد جلسة كهذه اليوم. لا بل ترفض حتّى اللحظة غالبيّة قوى المعارضة في المجلس مبدأ عقد جلسة كهذه في ظل الفراغ الرئاسي، بمعزل عن نوعيّة الملفّات المطروحة.

أهمّ الملفّات التشريعيّة المرشّحة لدخول جدول أعمال جلسة "تشريع الضرورة" المحتملة، هو قانون الكابيتال كونترول، سيّء الذكر بالنسبة للمودعين، والذي يمثّل الغطاء القانوني الذي يشرّع القيود المفروضة على الودائع المصرفيّة حاليًّا. مع الإشارة إلى أنّ نائب رئيس المجلس النيابي الياس أبو صعب سرّع من وتيرة العمل على مشروع القانون هذا، في اللجان النيابيّة المشتركة، ما أفضى إلى الانتهاء من مناقشته هناك، ليكون جاهزًا للطرح في أوّل جلسة للهيئة العامّة. ويبدو أن رئيس المجلس النيابي يتريّث قبل خوض معركة تأمين النصاب لهذه الجلسة، بسبب حساسيّة مشروع قانون الكابيتال كونترول والحذر الشعبي اتجاهه، وهو ما لا يسمح بتسويق معركة تأمين النصاب أمام الرأي العام بسهولة.

هنا يأتي دور إضراب جمعيّة المصارف، الذي تلا قرار محكمة التمييز، والذي طالب –للحد من هذه الإجراءات القضائيّة "التعسّفية"- بتسريع العمل على الحلول "التي طال اعتمادها، وفي طليعتها قانون الكابيتال كونترول"، وفقًا لبيان الجمعيّة. وبحجّة أنّ هذا القرار القضائي هو "انتصار لصاحبه، على حساب سائر المودعين وخسارة لهم"، طالب بيان الجمعيّة بتعجيل تشريع "الضوابط على السحوبات والتحاويل إلى الخارج"، من دون انتظار عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، معتبرة أنّ "ربط إقرار قانون الكابيتال كونترول بقانون إعادة الهيكلة يخالف أبسط قواعد العقل والمنطق".

على هذا النحو، خلق الإضراب المصرفي واقعًا متأزّمًا مستجدًا، ما يضع الكابيتال كونترول أمام المشرّع والجمهور كحاجة ملحّة وداهمة، طالما أن غيابه بات مربوطًا بالإقفال المصرفي الشامل، والحصار المالي الذي تفرضه جمعيّة المصارف على عموم اللبنانيين. وعلى هذا الأساس أيضًا، بات هناك مناخ ضاغط لتمرير الكابيتال كونترول، وتشريع حبس الودائع والقيود على السحوبات والتحاويل، قبل بروز معالم قانون إعادة الهيكلة، الذي يفترض أن يرسم الطريق المتوقّعة لإعادة الودائع، ولو الصغيرة والمتوسّطة منها فحسب.

باختصار، جاء القرار القضائي في مرحلة حسّاسة ودقيقة، لتتمكّن جمعيّة المصارف من توظيفه في الاتجاه الذي تريده بالضبط. إذ صوّرت الجمعيّة القرار القضائي، الذي يطال وديعتين صغيرتين، كأزمة مستجدة قلبت موازين العمل في القطاع، ما برّر إقفاله اليوم، بانتظار إقرار قانون الكابيتال كونترول، كحل نهائي يشرّع القيود على جميع المودعين، ويعطي المصارف العفو العام المالي المنتظر. وعندها، سيكون بإمكان الجمعيّة فك الحصار المالي الذي تفرضه بإضرابها على المجتمع. أمّا بالنسبة لقانون إعادة الهيكلة، فلينتظر المودع ضماناته لاحقًا، بعدما نالت المصارف ما تريده من ضمانات تشريعيّة.


الضغط باتجاه أهدف أخرى

بالتوازي مع الضغط باتجاه إقرار قانون الكابيتال كونترول، تمتلك جمعيّة المصارف أهداف أخرى من إضرابها، وفي طليعتها فرض أولويّاتها بما يخص قانوني إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة الانتظام للقطاع المالي، بعدما بدأت لجنة المال والموازنة بمناقشة القانونين مؤخّرًا.

مع الإشارة إلى أنّ بيان الجمعيّة أتى على ذكر قانون إعادة هيكلة القطاع، من بوّابة اعتبار أنّ الأزمة القائمة اليوم ليس أزمة القطاع المصرفي فحسب، بل أزمة تطال النظام المالي بكامله، بدءًا من الدولة ومصرف لبنان، ووصولًا إلى المصارف. وفي جميع الحالات، من المعلوم أن جمعيّة المصارف تضغط في الوقت الراهن باتجاه تقليص نسبة الخسائر التي ستطال رساميلها في سياق عمليّة إعادة الهيكلة، مقابل تعزيز دور صندوق استرداد الودائع، الذي سيتم تمويله من المال العام.

كما طالت قائمة مطالب بيان جمعيّة المصارف، لتطال التعامل مع "الاستدعاءات التعسّفية بحق المصارف بشبهة تبييض الأموال"، بالرغم من جميع التحذيرات "من انعكاسات هذه الشبهة غير المبرّرة على المصارف المراسلة الأجنبيّة التي قد تقفل حسابات المصارف اللبنانيّة، وتوجّه إلى الاقتصاد اللبناني الضربة القاضية". وبذلك، استهدفت جمعيّة المصارف الضغط باتجاه إقفال التحقيقات القضائيّة التي تطالها، والتي تحقق في مجموعة من التحويلات التي جرت من المصارف بعد تشرين الأوّل 2019، بموجب قروض من مصرف لبنان، ما صبّ في مصلحة حلقة ضيّقة من المودعين المحظيين.

وعلى هامش كل هذه القضايا، تخوض المصارف في الوقت نفسه كباشًا مع فريق عمل رئيس الحكومة نفسه، لدفعه باتجاه إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ومحاولة تعديل خطّة التعافي المتفق عليها مع الصندوق بحسب أولويّات الجمعيّة. مع الإشارة إلى أنّ الجمعيّة وصلت في هذا الملف إلى حائط مسدود، نتيجة تعارض بنود التفاهم المبدئي المعقود مع الصندوق مع الخيارات التي تحاول الجمعيّة فرضها في ما يخص عمليّة إعادة القطاع المصرفي، بعدما أصرّ صندوق النقد على تضمين الخطّة مبادئ تفرض تحميل الشريحة الأولى من الخسائر لرساميل أصحاب المصارف.

وبانتظار التوصّل إلى الصيغة النهائيّة المنتظرة لمسار إعادة الهيكلة، تحاول الجمعيّة الضغط على مصرف لبنان لتليين شروطه المتعلّقة بعمليّة معالجة مراكز القطع السلبيّة، والتي تمثّل الفارق بين إلتزامات المصارف وموجوداتها بالعملة الصعبة. مع العلم أن انكشاف مراكز القطع السلبيّة بشكل أكبر جاء بعد رفع سعر الصرف الرسمي إلى حدود 15 ألف ليرة، ابتداءً من هذا الشهر، ما سيفرض على المصارف التصريح عن إلتزاماتها بالدولار وفقًا لهذا السعر المرتفع قياسًا بسعر الصرف الرسمي السابق (أي 1507.5 ليرة للدولار). ولمعالجة هذا الواقع، يحاول مصرف لبنان عبر تعاميم إجبار المصارف على معالجة هذه الفجوة –أي مراكز القطع السلبيّة- بشكل متدرّج على مدى السنوات الخمس المقبلة، وعلى حساب رساميلها.

باختصار، لدى المصارف ما يكفي من معارك تُخاض على جميع الجبهات، سواء في مجلس النوّاب أو مع الحكومة ومصرف لبنان والقضاء. ولهذا السبب تحديدًا، يأتي الإضراب المفتوح كضربة واحدة تمكّن المصارف من الضغط بجميع الاتجاهات، تحت عنوان الاحتجاج على الإجراءات القضائيّة "التعسّفية". أمّا أبرز هذه المعارك وأهمها، فيبقى إقرار قانون الكابيتال كونترول، الذي تحتاجه المصارف بشدّة لطوي صحفة ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019، وتشريع مفهوم "الأموال الجديدة".

تعليقات: