نظرات الحريري التائهة كمن يبحث، مثلهم، عن خلاص متعذّر (Getty)
تعاطف معظم المسيحيين مع سعد الحريري وهو يلتقي مناصريه، سواء قرب ضريح والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري أو في بيت الوسط. تماهوا مع نظراته التائهة كمن يبحث، مثلهم، عن خلاص متعذّر. ومثلهم، مربك، متلعثم ولا يملك فكرة، ولا فكراً، يبدّل واقعه، كما واقعهم المأزوم.
لم يُذكّرهم سعد الحريري بما يخنقهم في حاضرهم فقط. نكأت صورته كـ"ضحية" جروحاً لم تلتئم في الذاكرة المسيحية.
فمناصرو "التيار الوطني الحر" استحضروا زمن المنفى الإجباري والمنع عن الكلام. ومناصرو "القوات اللبنانية" تذكروا فترات القمع والسجون. واستعاد حزب "الكتائب" تجارب مريرة من العزل إلى النفي والاغتيال السياسي والجسدي. حتى بعض الرهبان تحدثوا عن "التعاطف الإنساني والأخلاقي المفترض مع الضحايا، وقد أصبحنا جميعاً اليوم ضحايا"؛ وفي مضمر الكلام، إضافة إلى التأكيد أن الحريري ضحية، مرارة العجز في التعاطي مع واقع وطني، سياسي واجتماعي واقتصادي شديد البؤس.
تجربة أُجهضت
في الكلام عن الحريري في الأوساط المسيحية أسىً وحزن على تجربة "لبنانية" أُجهضت. يتعاطف كثر من المسيحيين، على اختلاف مشاربهم السياسية، مع الحريري، حتى حين يختلفون معه. على الأرجح لأنه يجسّد بالنسبة إليهم، ذاك الشاب الذي أتى بسنّة لبنان إلى "لبنان أولاً"، وهي "عقيدتهم" التاريخية وعقدتهم، التي فشلوا في تثبيت ديمومتها كتجربة حداثوية.
سعد في كتاب كثيرين منهم هو ذاك الشاب الغرّ الذي دخل الساحة السياسية اللبنانية، في زمن "كبار" وكبائر، فتعثر كثيراً، لأسباب وحسابات شخصية حيناً، ولظروف أقوى من قدراته أحياناً، ولتعقيدات الواقع اللبناني والمنطقة، لكنه يبقى "الآخر" الذي يمكن معه الوصول إلى مشتركات والبناء عليها.
في أسباب الإنكفاء
إلى اليوم، لم يفهم المسيحيون، كما اللبنانيون عموماً، الأسباب الحقيقية لانكفاء الحريري. يتحدثون عن قرار سعودي ويعجزون عن تفنيد أسبابه، أبعد من عناوين عامة، مبهمة.
قيل، هو امتعاض من أداء الحريري السياسي خصوصاً مع "حزب الله" و"فريق الممانعة".
لا شك أن كثيراً من المسيحيين لديهم ملاحظات أقسى حول أداء الحريري في هذا المجال. لكنهم، حين يرون الحريري يسير مكسوراً كما بدا، مهيض الجناح والخاطر، مشوشاً وفاقداً للحيوية، يخاف الكلام كي لا يُفهم منه موقف سياسي، يزداد منسوب تعاطفهم معه، ويكتمون السؤال عما فعله الرجل حقاً، ليستحق مثل هذا "العقاب".
يعرف المسيحيون، بالتجربة، أن في عقاب الحريري بعضاً من عقاب لطائفة وتهميش لها. ويدركون تماماً معنى هذا الموضوع وتداعياته داخل الطائفة نفسها وفي علاقاتها مع "زعيمها" كما مع سائر الطوائف والمكوّنات الوطنية.
اختبروا كيف عاد ميشال عون من منفاه ليشكل "تسونامي" سياسياً وانتخابياً. وشهدوا كيف خرجت "القوات اللبنانية" من سجنها أقوى واستعادت في سنوات قليلة حضوراً شعبياً وازناً. وفي تاريخ أبعد، عايشوا كيف صارت "الكتائب"، بعد محاولات عزلها، الحزب الأقوى على الساحة المسيحية.
مستندين إلى هذه التجارب، يفترض كثيرون أن عودة الحريري إلى الحياة السياسية، حين تسمح الظروف والتطورات، لا بد آتية، خصوصاً أن أحداً لم ينجح في ملء الفراغ على الساحة السنّية. يتحفظ بعضهم على هذه القراءة مستندين إلى مجموعة عوامل منها السعودي والشخصي ومنها ما يعود إلى دينامية الطائفة السنية نفسها وولاءاتها.
لكن إلى ذلك الحين، "الشفقة" هي الكلمة الأكثر دقة في نظرة المسيحيين إلى الحريري. شفقة عليه حكماً، مع إسقاطات كثيرة على واقع عجزهم، وعلى التجربة اللبنانية نفسها، فكرة ودولة، في زمن انحلال وأفول ما تبقى منها.
تعليقات: