المصارف تملك الكثير مما تريد إخفاؤه (علي علوش)
منذ أشهر طويلة، بات من الواضح أن ثمّة صدعاً بدأ بالظهور داخل جمعيّة المصارف نفسها (راجع المدن). وخلفيّة هذا الصدع باتت واضحة جدًا، لكل من يتابع وضع القطاع المصرفي عن كثب: ثمّة مصارف مستعدة للتضحية بما تبقى من رساميل في لبنان، إذا كان هناك مسار يضمن للمساهمين الحاليين دورهم في القطاع، عند القيام بعمليّة إعادة الهيكلة والرسملة. وثمّة مصارف مستعدة لإحراق الأخضر واليابس، دفاعًا عن ما تبقى من رساميل مدونة محاسبيًا على الورق. بين الإثنين، لا يوجد فرق عقائدي أو فكري، أو حتّى أخلاقي. الفرق الأساسي، هو قدرة كل فريق على إعادة الرسملة، بالاستناد إلى قيمة الأصول الموجودة في الخارج.
خلال الأيّام الماضية، شاءت التطوّرت القضائيّة أن تقسم جمعيّة المصارف مرّة أخرى، على خلفيّة التحقيقات القضائيّة في ملفّات تبييض الأموال. المثير للاهتمام هنا، هو أن الانقسام بين المصارف حصل على أساس خطوط تماس شبيهة بخطوط التماس السابقة، أي وفقًا للمعسكرات نفسها، ما يشير إلى وجود تكتلات ثابتة تتوزع ما بين أجنحة الصقور والحمائم داخل الجمعيّة، وفريق البراغماتيين الذي يناور بين الجناحين.
كل هذه التطورات، تعيد السؤال مرّة جديدة عن لحظة الفرز المنتظرة داخل القطاع، والتي باتت حاجة لتسهيل العمل بالكثير من الحلول، التي لطالما عرقلتها جمعيّة المصارف، التي يمسك بقرارها الصقور من أصحاب الرؤوس الحامية.
تسعة مليارات دولار: من يخفي الداتا؟
تتعلّق تحقيقات النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان بتسعة مليارات دولار، من القروض التي منحها مصرف لبنان للمصارف بالدولار الطازج، والتي قامت المصارف بتسديدها لاحقًا بالدولار المحلّي، أي اللولار. والتحقيق بخصوص تبييض الأموال، الذي تقوم فيه النيابة العامّة، يعود إلى اشتباه النيابة العامّة باستخدام هذه الدولارات الطازجة لتمويل تحويلات بعض أعضاء مجلس الإدارة إلى الخارج، بالإضافة إلى بعض المودعين المحظيين. أمّا اللافت للانتباه، فهو أنّ قيمة هذه القروض، المرتبطة بالتحقيقات، توازي كل ما تبقى من احتياطات بالعملة الصعبة لدى المصرف المركزي.
حتّى اللحظة، وافقت ثلاث مصارف، هي لبنان والمهجر وسارادار والاعتماد المصرفي، على تسليم الداتا للقضاء، على اعتبار أنّها "لا تملك شيئًا لتخفيه في التحويلات التي جرت"، وفقًا لمصادر أحد المصارف الثلاثة. مع الإشارة إلى أنّ تسليم الداتا جرى بعد تنازل المصارف الثلاثة بشكل طوعي عن حق السريّة المصرفيّة، في ما يتصل بتحويلاتها وحساباتها لدى المصرف المركزي، بمعزل عن حق رفع السريّة المصرفيّة الذي تم منحه للقضاء في التعديلات الأخيرة على قانون سريّة المصارف.
في المقابل، تخوض سبعة مصارف معركة شعواء في وجه القضاء رفضًا لتسليم هذه الداتا، باعتبار أن قانون سريّة المصارف يعطيها الحصانة اللازمة لعدم التعاون مع التحقيق. كما تعتبر هذه المصارف أنّ حق رفع السريّة المصرفيّة الذي تم منحه للقضاء بموجب التعديلات الأخيرة على قانون سريّة المصارف لا يسري بمفعول رجعي، أي لا يمكن تطبيقه على التحويلات التي جرت قبل إقرار التعديلات في تشرين الأوّل 2022 (راجع المدن).
وبمعزل عن صحّة هذا التفسير الملتبس للتعديلات، الذي تناقضه معظم تفسيرات خبراء القانون الجديّة، يبدو من الواضح أن هذه المصارف تملك الكثير مما تريد إخفاؤه في هذه التحويلات، خصوصًا أنّها كانت قادرة على التنازل عن حق السريّة بشكل طوعي، تمامًا كما فعلت قبلها المصارف الثلاثة، لو لم يكن هناك ما تريد تفادي التصريح عنه.
جمعيّة المصارف تتنمّر على أعضائها
لم تقف الاختلافات بين المصارف عند حدود تباين تعاونها مع القضاء، بل بلغت حد شنّ "مصادر جمعيّة المصارف" حملة تنمّر إعلاميّة منظمة، بحق المصارف الثلاثة المتعاونة مع التحقيق. فخلال الأيّام الماضية، سرّبت هذه المصادر أخباراً عن وجود صفقات مضمرة بين بنك لبنان والمهجر والتيار الوطني الحر، بما أفضى إلى تسليمه الداتا للنيابة العامّة الاستئنافيّة. كما بدأت بتمرير تهديدات مبطّنة، تلوّح بإقصاء المصرف من عضويّة الجمعيّة، إذا استمرّ بالتفرّد في التعاون مع القضاء اللبناني.
مع الإشارة إلى أنّ مصادر قضائيّة تفيد بأن بنك لبنان والمهجر كان قد أبلغ القضاء منذ فترة طويلة بتنازله الطوعي عن حق السريّة المصرفيّة، في كل ما يتصل بحساباته الخاصّة وفي أي ملف تحقيق محتمل، قبل إعادة تحريك ملف "التسعة مليارات دولار" مؤخرًا. وهذا تحديدًا ما يجعل اتهامات "مصادر الجمعيّة"، وتصويبها على علاقة محتملة بين المصرف والتيّار الوطني الحر، مجرّد ضوضاء تعبّر عن "حشرة" المصارف الأخرى لا أكثر.
وبعيدًا عن الإعلام، كانت أروقة جمعيّة المصارف تضج بالأخبار عن الضغوط التي تتعّرض لها المصارف الثلاثة، لفرملة تعاونها مع التحقيقات. فبرأي المصارف المتمرّدة على طلبات النيابة العامّة الاستئنافيّة، مثّل تقديم المصارف الثلاثة لداتا التحاويل "طعنة في ظهر" المصارف الأخرى، التي ستبدو اليوم في موقع الخارج على القانون، مقارنة بالمصارف الأخرى "المتعاونة والإيجابيّة" في علاقتها مع القضاء.
وحتّى اللحظة، يبدو أن المصارف الثلاثة مصرّة حتّى اللحظة على عدم التراجع إزاء ضغوط الجمعيّة وتسريباتها الإعلاميّة، لكونها لا ترى سببًا يفرض عليها تحمّل المخاطر القانونيّة، التي يمكن أن تنتج عن تحدّي النيابة العامّة الاستئنافيّة، في حين أن الداتا الموجودة لديها لا تحمل ما يمكن أن يدينها. وبرأي إدارات هذه المصارف، ما تحاول الجمعيّة القيام به هو تحميل جميع المصارف مجتمعة، وزر إخفاء داتا بعض المصارف، التي انطوت على الشبهات التي تحقق فيها النيابة العامّة الاستئنافيّة. وهذا ما يتعارض مع الهدف الأساسي الذي يفترض أن تعمل له جمعيّة المصارف، والمتمثّل بحماية مصالح القطاع بشكل عام فقط.
فرز المصارف خارج مظلّة الجمعيّة ضرورة
لا تقتصر الخلافات داخل جمعيّة المصارف على ملف التحقيقات القضائيّة وموضوع توزيع الخسائر، بل تطول لتشمل كيفيّة التعامل مع القوى السياسيّة ومصرف لبنان والحكومة، وفريق التفاوض مع صندوق النقد وخطة التعافي المالي. ومع كل خلاف جديد، تتزايد النقاط المتفجّرة التي تعكس تفاوتًا في المصالح بين أعضاء الجمعيّة.
ولذلك، بات هناك كثيرون داخل الجمعيّة ممن يرون أنّ جمعيتهم باتت عقبة أمام الحلول التي يحتاجها القطاع، بعدما تحوّلت إلى منصّة لإطلاق القذائف، التي تحمي حلقة من الصقور الذين لا يملكون مصلحة في هذه الحلول. باختصار، باتت جمعيّة المصارف –برأي هؤلاء- عقبة أمام إعادة إحياء القطاع المصرفي نفسه، بل وباتت سببًا لتعميق وتطبيع الأزمة الراهنة كما هي.
لكل هذه الأسباب، قد يكون من الضروري اليوم فرز المصارف اللبنانيّة وفقًا لمصالحها والدور الذي ترغب بلعبه في الملفّات الاقتصاديّة، بدل رؤيتها كقطاع موحّد –ومتشنّج- في مقارباته ومصالحه. وهذا الفرز، قد يسمح بخلق علاقة تفاوضيّة مختلفة تمامًا مع القطاع خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيغيّر كثيرًا في المشهد المالي القائم اليوم، خصوصًا أن الجمعيّة لعبت دورًا كبيرًا في التأثير على قرارات السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة خلال السنوات الماضية.
تعليقات: