تلقي القوى الأمنية القبض على أخطر المجرمين.. والقضاء يخلي سبيلهم! (Getty)
ثمة مثل قانوني شائع يقول "العدالة المتأخرة هي كاللاعدالة". ولعلّ هذا المثال يحمل في طياته فحوى أزمة القضاء اللبناني القديمة: التأخر الفادح في تحقيق العدالة أو كشف النقاب عن ظلّها المبتذل، واستحالتها جزءًا لا يتجزأ من "الكيتش" اللبناني الملتبس، لا بمفهومها العميق والشامل الذي يختزن مجموعة من القواعد القيمية والأخلاقية والمناقبية التي ناضلت البشرية قروناً لتحديد معالمها وحيثياتها ومضامينها. العدالة المتأخرة غالبًا التّي لم نملك إلا أن نراها لمامًا في دولة تحسب نفسها في طليعة الديمقراطيات التّي سنت ودشنت الشرع الحقوقية العالمية. هذه الدولة التّي أغفلت منذ عقود واجباتها تجاه مواطنيها ومناطقها، بحكم انشغال مسؤوليها وساستها بقضايا كبرى كالفساد والبيروقراطية والمحاصصة الطائفية والتناحر الحزبي.
بُعيد عودة القضاء اللبناني إلى عمله بعد شهورٍ خمسة من التعطيل والاعتكاف الأطول بتاريخه، تطفو على سطح العودة الجدليّة المفعمة بالمناكدات والمنعطفات الملتبسة، التّي سلك مسلكها عدد من أهل القضاء لتمييع الحقائق وطمس العدالة في ملفات ساخنة كالمرفأ والمصارف.. وعلى هامش هذه القضايا علت صرخات المتقاضين المطالبين باستئناف المسار القضائي لملفاتهم المبيتة في أدراج المحاكم منذ سنوات. وكان للبقاعيون حصة لا يُستهان بها من هذه المطالبات، ودعوا القضاء لوضع حدّ لمحنتهم المستمرة مع التفلت الأمني منذ سنوات طوال. وعليه، يستجد الحديث عن المسار القضائي لمختلف الملفات. وبينما لم توفر السّلطات الأمنية أي فرصة للإطباق على أخطر المجرمين والمطلوبين وملاحقتهم (خصوصاً في المناطق الممتدة من الهرمل شمالاً وصولاً لأقصى جنوب البقاع الأوسط)، بات التساؤل مشروعًا عن كيفية تعاطي القضاء اللبناني مع هؤلاء الموقوفين؟ وما مدى جديّته في تحقيق العدالة للمتضررين منهم أو إنصاف الحق العام، بعد شهور من الاعتكاف القضائي الأشرس في تاريخ لبنان؟
جرائم جنائية في البقاع الأوسط
بتاريخ 1 أيار من عام 2020 هزت جريمة مروعة منطقة البقاع الأوسط وتحديدًا بلدة على النهري، راح ضحيتها ثلاثة أفراد من عائلة واحدة، هم: عباس أسعد عباس (47 سنة حتّى لحظة الجريمة)، ووالدته عليا محمد عباس (67 سنة حتّى لحظة الجريمة) قتلا فورًا، بينما لا تزال شقيقة عباس، زينب (39 سنة، لبنانية) تحت المراقبة وفي طور العلاج إلى اليوم. هذه الجريمة التّي حصلت حسب ما أشار شقيق القتيل مهدي أسعد عباس نتيجة خلاف عائلي، تطورت فيما بعد إلى أحداث أمنية خطيرة تخللها إحراق سيارات ومنازل. وفي حديثه مع "المدن" أشار شقيق الضحايا عن ملابسات الجريمة قائلاً: "بدايةً، استهل الخلاف عندما رأى أخي عباس (ضحية) زوج عمتي يضرب أختي، فحاول بدوره أن يوقفه، الأمر الذي تطور إلى تلاسن لفظي، فما كان من ابن المُعنِّف المدعو قاسم حسين عباس سوى الصعود إلى سطح المبنى المقابل، مطلقًا النيران صوب منزلنا، وأصيبت على إثره والدتي بعيار ناري وتوفيت بلحظاتها، فيما قتل أخي عباس على يدّ محمد أحمد عباس الذي أطلق النار بدوره من زاوية أخرى".
وأضاف: "بداية توجهنا فورًا إلى القضاء الذي باشر والقوى الأمنية بالتحقيقات، وتولت قاضية التحقيق مارجي مجدلاني التحقيق بقضيتنا، وبالرغم من إطباق القوى الأمنية على خمسة من المشتبه بهم، تم إخلاء سبيل إثنين منهم، بينما لم يتم للآن إلقاء القبض على المتورطة الأساسية في جريمتنا المدعوة يسرا العليّ. فيما حاولت عائلتهم التنصل من الجريمة، عبر محاولة حسين عباس والد المتهم بإطلاق النار تسليم نفسه لتبرئة كل من ابنه وأخيه، وعليه تم توقيفي حوالى 33 يومًا بجرم إحراق سيارتي الجناة وجزء من منزل القاتل، في حين حاولت القاضية إخلاء سبيل المتهم بكفالة 300 مليون ليرة". وأشار: "بالرغم من محاولة البعض أخذ القضية في مسار غير قانوني، لا نزال نحن متمسكين بالقضاء والدولة، ونتمنى منهما عدم الانصياع للضغوط أيًا كانت، وتحقيق العدالة لنا وللضحايا بعد ثلاث سنوات من التأجيل والمماطلة".
المسار القضائي المعطل
وعليه، تواصلت "المدن" مع وكيل العائلة القانوني الذي أكّد بدوره أن العائلة متمسكة بحكم القضاء وتسعى للحصول على العدالة، قائلاً: "الملف الذي لا يزال عالقًا منذ الثلاث سنوات، إلى الآن هو عرضةً للمماطلة والتأجيل، أكان قبل القضائي وبعده، وتتخلله مشكلتين أساسيتين: أولها مشكلة في الأدلة الجنائية من جهة التقارير التّي لم تراع زوايا إطلاق النيران التّي أصابت الضحايا ومشكلة أخرى في التحقيقات، وبالرغم من توقيف الأجهزة الأمنية لخمسة متهمين لا تزال المتورطة الأساس والمحرضة على الجريمة متوارية عن الأنظار. بدايةً تابعنا الملف مع قاضية التحقيق مارجي المجدلاني، وبالرغم من إصرار المتهمين بأن المجرم هو واحد، تبين التقارير أن هناك أكثر من شخص متورط في جريمة القتل المتعمد وعن قصد، التّي ادعينا فيها على كل من المدعو قاسم حسين عباس ومحمد أحمد عباس بموجب المادتين من قانون العقوبات 547 و549. ولسبب غير مفهوم لم تجر التحقيقات بالصورة التّي تضمن معرفة الحقيقة الكاملة وراء الجريمة، وما زاد الطين بلّة محاولة مفاجئة لإخلاء سبيل أحد المتهمين الأساس في الجريمة بكفالة 300 مليون ليرة، الذي أسقطناه فورًا".
وأضاف المحامي: "هذه القضية يتخللها جليًا عدّة علامات استفهام، أولها في مسار التحقيقات التّي لم تكن مقنعة، وثانيها قرار إخلاء السبيل المفاجئ، وغير المنطقي. إذ ليس مقبولاً بموجب القانون المبادرة إلى إخلاء سبيل متهم بجريمة قتل واضحة كعين الشمس، ومقيّدة بأدلّة وبراهين وقرائن مادية وملموسة، تؤكّد أنّه الفاعل الحقيقي، حتّى ولو دفع كلّ ثروات العالم كفالةً مالية لإخلاء سبيله، لأنّ من شأن هذا التصرّف أن يولّد جريمة أخرى لم تكن متوقّعة. وجرائم القتل مستثناة من إخلاء السبيل. وفيما لم تكتمل التحقيقات بالشكل الشامل والمنطقي، قمنا بالتقدم بطلب لدى النيابة العامة لاستئنافها، والأمر المؤسف أن مثل هذه القضايا عادةً ما تكون فيها النتائج حاسمة من جهة المتورطين، فكيف يتم المماطلة العلانية في المسار القضائي لها، وبالتالي تأخير العدالة، في منطقة من الصعب على المتقاضين الوثوق بالقضاء أساسًا؟".
مماطلة مستمرة ومطلوبين هاربين
وبالتوازي، عادت "جريمة بتدعي" إلى الواجهة، بعد تسع سنوات على حصولها والتي أسفرت عن مقتل المغدورين صبحي فخري وزوجته نديمة، بعد أن أقدم عدد من المسلحين المطلوبين، على إطلاق النار عليهما عندما كانوا يفرون من أمام دورية لمديرية المخابرات في الجيش، وذلك في شهر تشرين الثاني من العام 2014، وفيما عقد المجلس العدلي منذ حوالى الأسبوعين، جلسته الأولى في القضية برئاسة القاضي سهيل عبود وعضوية المستشارين القضاة جمال الحجار وعفيف الحكيم ومايا ماجد وجان مارك عويس، وبحضور ممثلة النيابة العامة القاضية ميرنا كلاس. وقد أحضر ستة موقوفين في القضية هم علي ياسين جعفر وعلي محمد سليم جعفر وعلي خالد جعفر وحمدان علي صبحي جعفر وعلي حسين عاصي ومخول حبيب فارس، وحضر عنهم المحامون عليا شلحة وزويا داغر وإيلي حنينة، فيما لم يجر سوق الموقوف السابع علي محمد جهجاه جعفر. وقرر المجلس إبلاغ قرارات المهل للمتهمين الفارين قزحيا جعفر وحسن محمد جعفر وعلي مالك جعفر ومحمد جعفر وهادي جعفر ومحمد سعدالله جعفر وحسين سيفو شريف وصبحي محمد جعفر وحسين سعدالله جعفر، مرجئاً الجلسة إلى 24 شباط المقبل.
وليست القضيتان، وحدهما اللتان شهدتا على بيروقراطية وثغرات غير منطقية وتجاوزات في غالبية الأحيان وخصوصاً في منطقة البقاع. إذ أنه وبالرغم من مزاعم السّلطات اللبنانية بمتابعتها الدائمة للأوضاع الأمنية ومحاولة ملاحقتها للمطلوبين في عمليات أمنية شبه يومية، لا يزال إخلاء السبيل الاعتباطي للموقوفين المتهمين منتشرًا، بالرغم من عدم قانونيته، وعادةّ ما يكون مقرونًا بضغوط حزبية ورسمية أحيانًا. وفي حين يسعى عناصر الأجهزة الأمنية في عمليات خطيرة ومميتة لإلقاء القبض على أخطر المطلوبين والمتهمين، يبدو مستغربًا جدًا إطلاق سراح الكثير منهم عند وضعهم في عهدة القضاء اللبناني.
وهاتان الجريمتان هما عينتان بسيطتان عن حجم العرقلة في المسار القضائي للقضايا والملفات في أروقة المحاكم وقصور العدل في البقاع الأوسط والشمالي، والذي لا يختلف كثيرًا عن باقي المناطق من جهة الوطأة، وبل يستفحل في هذه المنطقة. ولعل هذا المسار القضائي المعطوب دليل واضح على إهمال جزء كبير من أهل القضاء لحق المواطنين المتقاضين في الحكم العادل. وفي حين قد تكون بعلبك- الهرمل تحديدًا المحافظة المنكوبة، والمتروكة منذ عقود في صحراء التهميش والتحامّل، أكبر المتضررين من غيبوبة دولتها المتعمدة، فإنها تعيش اليوم مسلسلاً طويلاً من الاشتباكات والحوادث الأمنية المفزعة والمهيبة، وإزاء محاولات الدولة اللبنانية ممثلةً بأجهزتها الأمنية والعسكرية تدارك الاحتقان الأمني بتداعياته المحسوسة على صعيد لبنان، فإن جموع البقاعيين باتوا يتساءلون عن جدوى هذه العمليات في حين أن القضاء يتقاعس عن أداء واجباته بالشكل الفوري والقانوني.
تعليقات: