الجيش وعصابات بعلبك: الدم المسفوك يحرض على الانفصال أيضاً

تعالت الدعوات لـ عزل  بعلبك:  لا يعود يموت الجيش ولا نحزن على أولادنا  (المدن)
تعالت الدعوات لـ عزل بعلبك: لا يعود يموت الجيش ولا نحزن على أولادنا (المدن)


ما وراء الكلام الرسمي الذي قيل في تكريم شهداء الجيش، الذين سقطوا في بلدة حورتعلا البعلبكية برصاص عصابات تجارة المخدرات وحماتهم، ثمة نار تتأجج تحت الرماد، في أوساط عائلات العسكريين الذين تقاسموا الشهادة هذه المرة بين تعلبايا، أبلح واليمونة. وهناك كلام يحكى في الغرف المغلقة، يخرج عن الانضباط العسكري الذي يُلزم العسكريين وعائلاتهم، فيعكس تململاً من التضحيات التي تقدّم على مذبح وطن فقد أبناؤه الإيمان به. فبأي عزم يتوقع البعض من الجيش أن يواجه شتى أنواع الفلتان الذي نواجهه، بينما الدولة بكل كيانها هي في حالة موت سريري، ولا تنتظر سوى من يقر بموتها، وينزع عنها أجهزة التنفس الاصطناعي.


بعد انحلال الدولة

لا شك أننا اليوم في مرحلة إنحلال الدولة. ليس بمفهومها الإنمائي والخدماتي الذي تطالب به بعلبك منذ زمن. وإنما بكيانها الحافظ لحقوق الناس وكراماتهم. بلد يسير من دون رأس هرم سلطة، مع حكومة تصريف أعمال يدور جدل طويل حول ميثاقية إنعقادها لاتخاذ أي قرار يتعلق بمصير اللبنانيين. ومجلس نواب يفشل في انتخاب رئيس للجمهورية، وغير قادر على تأمين النصاب لجلسة تشريعية، أقله للتمديد لقادة الأجهزة الأمنية. الإدارات الرسمية في إضراب مستمر. قضاء تعطله المناكفات السياسية. مدارس غير قادرة على الاستمرار من دون موارد مالية. مصارف نهبت أموال الناس، ومن بينهم العسكريين، وأغلقت الباب بوجههم اعتراضاً على مطالبتهم بودائعهم. واقع اقتصادي مذل للبنانيين عموماً، ومن بينهم العاملين في السلك العسكري والأمني. لا دواء. وإذا وجد لا قدرة للكثيرين على تأمينه. لا استشفاء إلا لمن يملكون الدولار.. وسط كل ذلك ترسل النخب العسكرية إلى جبهات المواجهة مع عصابات المخدرات في وكرها، وتكاد تخوض يومياً مواجهات مشابهة مع شتى أنواع عصابات الخطف والسرقة، مخلّفة ولو بعض إطمئنان بنفوس المواطنين الذين يعتبرون المؤسسة العسكرية ضمانتهم الوحيدة حالياً.

تبدو الصورة سريالية إلى حد بعيد، وربما كانت ستحمل إنجازاً للمؤسسة العسكرية المحمّلة بمهمات استثنائية، بظل إفلاس عام يصعّب الظروف المالية واللوجستية للعسكريين، ويدفع بقياداتهم إلى مبادرات فردية في البحث عن موارد بديلة في تأمين صمود العسكريين، لولا استشهاد المزيد منهم في ساحات الحروب مع العصابات.


هزائم الدولة أمام تسلط الدويلة

الصفعة تبدو كبيرة على مجتمع ذاق الهزيمة مجدداً. ليس بسبب مقتل الشبان الثلاثة وهم يقومون بواجبهم. وهذا مصير محتمل للعسكريين في أي بلد، وخصوصاً عندما يخوضون الحرب مع العصابات. إنما لكون الجهة القاتلة هي ممن تحتمي ببيئة تحمّلها مكوّنات المجتمع اللبناني المناهضة لها مسؤولية ما وصلت إليه البلاد. وعليه يصبح من الطبيعي أن يستعيد اللبنانيون مع استشهاد العسكريين الثلاثة شريط هزائم الدولة أمام تسلط الدويلة. والتي تفرغ البلد برأيهم من شبابه. "فمن لم يسافر يقتل" كما قال أحدهم في تعليق على صفحة فايسبوك. والجهة المتهمة بالتهجير والقتل بالنسبة لهم واحدة. فمن يهاجرون يبحثون عن وطن آخر لهم، لا يتحكم فيه السلاح غير الشرعي بمصير شعب بكامله. أما من يقتلون فهم ضحايا هذا التسلط للدويلة المحتمي بفساد سلطة الدولة. وهي الجهة نفسها التي بحمايتها السلاح غير الشرعي، تشجّع على استخدامه في شتى أنواع الارتكابات المروعة لسائر المجتمع اللبناني. هي من يتدخل في القضاء ولدى الأجهزة الأمنية للإفراج عنهم إذا ما أوقفوا. وهي أيضاً من يقترح سن القوانين للعفو العام عنهم. وهي نفسها التي تجنبت إصدار ولو إدانة علنية واحدة لموبقاتهم، وآخرها المجزرة المرتكبة بحق العسكريين. بل تجرأ من خرج من داخل هذا المجتمع، بمساواة شهداء الجيش مع القتلة الذين خاضوا المواجهة دفاعاً عن طفار العصابات، كما فعل آل المصري بحورتعلا في مؤتمر صحافي عقدوه على أثر أحداث بلدتهم، حاولوا من خلاله تغطية قتل العسكريين والإتجار بالمخدرات بذرائع الفقر والجوع.


"عزل" بعلبك!

طعم الهزيمة الذي استشعرت به العائلات التي قدمت أبناءها قرابينا على مذبح الوطن، يزيده مرارة الانطباع السائد بأن قتل العسكريين الثلاثة غدراً على ما ذكره زملاء لهم، هو الترجمة الملموسة لمجزرة القتل المعنوية التي يتعرض لها اللبنانيون جراء هدم بنية الدولة وكيانها. ومن هنا يصبح مبرراً الكلام الذي سمع بين أوساط مودّعي شهداء الجيش، في دعوة بعضهم لعزل بعلبك، واعتبارها أرضاً من خارج سيطرة الشرعية اللبنانية، يتحكم بها السلاح غير الشرعي. وحينها كما قالت إحداهن "لا يعود يموت الجيش ولا نحزن على أولادنا". علما أنه في ترجمة هذا الكلام لا يمكن فصل الدعوة إلى الإنفصال الأمني عن الإنفصال السياسي عن بعلبك. والذي لا يعنى به أهلها الشيعة إلا بقدر ما ينتمون إلى الفئة المنضبطة تماماً في التجديد للزعامة التي تتهم بتعطيل كل مرافق الدولة حالياً.

ولهذه الدعوة طبعاً خلفيات سياسية ترتبط بالقناعة الراسخة بأن أي عملية عسكرية تنفذ في وكر العصابات المحتمية بالتجمعات السكانية في بعلبك، لا تنفذ عادة من دون تأمين غطاء سياسي لها من الجهة التي تتحكم بكل مفاصل بيئتها. وهي مداهمات غالباً ما تتاح من خلال رفع الغطاء عن من باتوا يشكلون إزعاجاً للسلطة التي تحميهم.

وهذا ما يزيد من عبثية موت العسكر على هذه الجبهات. خصوصاً أن التضحية هنا ليست مرتبطة بخطة شاملة ومتداخلة أمنياً وقضائياً وسياسياً وحتى اجتماعياً، تسهم في اقتلاع العصابات ومنع تمدد جذورها في المجتمعات، وتوريط مزيد من الشباب العاطل عن العمل في صفوفها. ما يضع الجيش في مرمى العمليات الانتقامية، ويجعل من شهدائه صناديق بريد توجه الرسائل لمن رفع الغطاء عن العصابات، وليس للمؤسسة بحد ذاتها.

وهذا ما يضاعف الأسى على شباب قتل من دون طائل. إذ أن العسكري حتى لو كان يحمل حياته على كفه كما يقال، لا يتوقع الموت، وخصوصاً ليس على أيدي العصابات. وبالنسبة لأهلهم، وضع العسكريين في مواجهة العصابات المحتمية ببيئتها، يشكل تضحية بهم، وليس تضحية من قبلهم.


"خليهن يقبروا بعض"

في أحد التعليقات التي كتبت إثر إستشهاد العسكريين الثلاثة قال أحدهم: سألت جاري الضابط المسيحي في الجيش، لما لا يقوم الجيش بمداهمة هؤلاء؟ أجاب: أي مداهمة يحتمل فيها سقوط إصابات أو شهداء للجيش، والقيادة وبكل بساطة لا تريد تقديم شهداء على أيدي تجار المخدرات، ولمّح لي بما معناه أن القيادة لا تريد أن يموت العسكري المسيحي على أيدي عصابات بالبقاع: "خليهن يقبروا بعض". وفي تتمة ما نشر، تلميح لكون العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش اللبناني حالياً بوجه هذه العصابات، تلبي رغبات دولية وإقليمية، خصوصاً بعدما وصلت كميات المخدرات المصدرة من لبنان إلى أراضيها إلى حجم هائل.

ولكن شهداء الجيش ليسوا من فئة المسيحيين حصراً. وإن ترك غدر العسكريين الثلاثة انطباعات في أوساطهم بانتهاك كراماتهم مع كرامة المؤسسة العسكرية.. وقد عبّر البعض عن ذلك في فورة الغضب على استشهاد الجندي جورج أبو شعيا في أبلح. هذه البلدة التي تعرف ببلدة الجيش، ليس فقط لاحتضانها مركز القيادات العسكرية والمخابراتية، إنما لأنه في كل بيت فيها عسكري. فكتب أحدهم "عندما ترى رفيقك مات لأنّه هناك أولاد حرام يريدون أن يعيشوا بمزرعة لوحدهم، اعرف إنه لم يعد هناك بلد ولا دولة".


الهوة العميقة

هذا الكلام يتكرر في كل عملية يستشهد فيها الجيش برصاص العصابات. لترسخ الهوّة التي باتت عميقة جداً بين المجتمعات المصرة على توحيد السلاح بيد الجيش وبين البؤر التي بحمايتها للسلاح غير الشرعي تحمي برأيهم من يستخدمونه في ارتكاباتهم المروّعة لسائر المجتمع اللبناني. وقد بات البعض يعتبر بأن المعركة مع العصابات في وكرها قد لا تكون متكافئة، خصوصاً أن الجيش في تنفيذه لأي مهمة يحرص على أن يحمي المواطنين العزل، وهو لو ارتكب بعض الأخطاء أحياناً، فإن ذلك لا يمر من دون تحقيق يعوض في نهايته على المتضررين إذا كانوا مظلومين. فالجيش ليس في مواجهة مع شعبه، إنما مع العصابات وطفارها، بينما العصابات تأخذ من المواطنين العزل متاريس لها، ولا توفر فرصة لتحرض عليهم، وهذا ما يزيد برأي المطلعين من مخاطر النيل من العسكريين أو الغدر بهم أثناء مطاردتهم للطفار.

ليست الإضاءة على هذه الانطباعات السائدة في البيئة الحاضنة للجيش طبعاً، للنيل من معنويات المؤسسة، التي لا تزال على رغم كل الملاحظات تحظى بإجماع اللبنانيين المتمسكين بالشرعية، إنما لمصارحة بعيدة عن كلمات المواساة الشاعرية بشهداء المؤسسة. تحاشياً "لأن يموت في وطني من لا يستحّق الموت، على يد من لا يستحّق الحياة" كما كتب أحدهم.

تعليقات: