قد لا يهتم كثيرون من السوريين اليوم بمستقبل قطاع العقارات في سوريا، في ضوء تداعيات الزلزال. فهم مشغولون بأزمة اختفاء "البصل" من الأسواق في بلدٍ بات توفير أبسط احتياجات سكانه الغذائية، معضلة للأفراد، وللسلطات، على حدٍ سواء. لكن على المدى المتوسط والبعيد، فإن رصد تطورات السوق العقارية وآفاقها، في بلدٍ ما -كما يعلم المتخصصون- يشكّل مؤشراً رئيسياً في تقدير آفاق النشاط الاقتصادي الكلي، في ذاك البلد.
قبيل الزلزال، كان الركود يخيّم على قطاع العقارات السوري، لجملة أسباب، أبرزها، انخفاض القدرة الشرائية للسوريين، وتراجع مساهمة المغتربين في شراء العقارات في الداخل جراء التضخم العالمي، وارتفاع تكاليف الإنشاء ومواده، كالحديد والإسمنت، بصورة كبيرة، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة السورية. إلى جانب موجة هروب السوريين من البلاد التي دفعت أعداداً كبيرة لعرض عقاراتهم للبيع بأية طريقة بغية المغادرة.
أدى هذا الواقع إلى ازدياد العرض في السوق العقارية بصورة كبيرة، مقابل تدني الطلب، وبالتالي، انخفاض الأسعار، إن قوّمناها بالدولار، وليس بالليرة.
فكيف سيؤثر الزلزال على سوق العقارات في سوريا؟
الغريب، أن خبيراً "اقتصادياً"، نشرت صحيفة "البعث" الموالية توقعاته، ذهب إلى أن أسعار العقارات وإيجاراتها ستشهد ارتفاعاً في الفترة القادمة، إثر تهدم الكثير من المنازل بسبب الزلزال. وتوقّعَ الخبير ارتفاعاً بنسبة 30% في الأسعار.
لكن تجارب سابقة في الأسواق العقارية بمناطق متضررة بكوارث طبيعية، خاصة الزلازل، تنبئ بمسار معاكس. إذ عادةً ما ينخفض الطلب على العقارات في تلك المناطق، لأسباب نفسية متعلّقة باهتزاز الثقة بمتانة العمران وقدرته على حماية أرواح قاطنيه في حال حصول زلزال.
ويمكن رصد هذه النتائج بصورة أولية في تركيا، التي تشهد الآن حملة تطاول المقاولين ومتعهدي البناء، وسط تساؤلات جدية حول مستقبل الثقة بالقطاع العقاري التركي، في بلدٍ عرف طفرة عقارية كانت أحد أركان نهوضه الاقتصادي في العقدين السابقين.
في الحالة السورية، يبدو المشهد أسوأ بمراحل، رغم أن الأضرار الناجمة عن الزلزال في تركيا، قد تكون عشرة أضعاف نظيرتها في سوريا. ذلك أن التعاطي الحكومي الرسمي ما يزال منفصلاً عن الواقع، وسط إقرار من المتخصصين، وعبر الإعلام الموالي، بالعجز عن مواجهة التداعيات الاقتصادية للزلزال، بالقدرات الذاتية لـ "الدولة السورية".
ويظهر ذلك جلياً في قيمة المخصصات المالية الحكومية لإعادة إعمار ما دمره الزلزال. إذ أعلنت حكومة النظام 50 مليار ليرة سورية كمبلغ أولي، وهو ما يعادل 6.7 مليون دولار (حسب سعر الصرف الرائج). فيما تذهب تقديرات أولية إلى أن قيمة الأضرار ما بين 5 مليار دولار، في أقل التقديرات، إلى نحو 20 مليار دولار، في أبعد التقديرات. أي أن الاستجابة الحكومية تصل في أقل التقديرات إلى نحو 1.5 بالألف، من حجم التمويل اللازم. فيما تبدو "خطة العمل الوطنية" للتعامل مع تداعيات الزلزال، التي أعلنتها حكومة النظام مؤخراً، عامة ومن دون أية تفاصيل أو أرقام، ولا تحتوي رؤية واضحة، وتركّز على إجراءات إسعافية، تستند إلى توفير "سكن بديل" و"مؤقت"، للمتضررين.
وبعيداً عن "البيانات الرسمية"، يثبت الأداء الحكومي انفصاله الكبير عن معاناة الناس. ففي اللاذقية، يُطلب من المتضررين دفع 1.2 مليون ليرة، لقاء إصدار تقرير هندسي يسمح لهم بترميم وتدعيم منازلهم قبل العودة إليها. فيما يُصدر مصرف حكومي قرضاً للمتضررين من الزلزال، يتطلب دخلاً شهرياً لا يقل عن 750 ألف ليرة، في بلدٍ وسطي الأجور فيها لا يتجاوز الـ 200 ألف. وفي حال عدم توفر دخل كهذا، يمكن للمتضرر أن يبحث عن 18 كفيلاً، يكفلونه للحصول على 18 مليون ليرة، لا تغطي التكلفة الفعلية لترميم منزل.
وفي مواجهة أداء حكومي مزرٍ، ترصد الجهات المختصة بصورة يومية، أبنية آيلة للسقوط، حتى في مناطق بعيدة جداً عن الرقعة الجغرافية التي طاولها الزلزال. خاصة في ريف دمشق التي أرهقها نظام الأسد لسنوات قصفاً وتدميراً خلال حربه على المناوئين له.
أما المشكلة الأبرز فتكمن في انهيار أبنية حديثة في محافظة لم تتعرض للقصف والبراميل المتفجرة، كاللاذقية. مما يؤكد حجم الفساد في قطاع التشييد بسوريا. وبهذا الصدد يقرّ العارفون بهذا القطاع أن 50% من الأبنية الحديثة تُنفّذ خلافاً للمخطط، الذي يكون منافياً –أساساً- لشروط السلامة الفنية، وأن 70% من أذونات الصب وهمية وغير مراقبة، ناهيك عن عدم وجود عمليات "سبر" حقيقية للتربة في أماكن التشييد. ويحدّثك الضحايا عن حديد مسروق وغير كافٍ في الأبنية المنهارة، ناهيك عن إسمنت بجودة متدنية للغاية يشبهونه بـ "البودرة". كل هذه المواصفات السيئة حصلت على تراخيص من البلديات، باستخدام الرشى والفساد المؤسساتي المستفحل بصورة كارثية.
ومع غياب التمويل، والغموض حول الأفق المحتمل لصفقة سياسية تتيح دخول مليارات الدولارات لإعادة الإعمار، ومع الحاجة لنحو 100 ألف منزل جديد، على الأقل، بتكلفة لا تقل عن 1 مليار دولار، بالحدود الدنيا، يصبح المشهد المستقبلي غاية في القتامة.
وفي ضوء ما سبق، يبدو مستقبل السوق العقارية في سوريا، نحو المزيد من الركود، وانهيار الأسعار، والعمران العشوائي المنافي للمواصفات الفنية المطلوبة لمقاومة حتى أبسط الهزات الزلزالية، في ظل تلاشي أي ثقة بقطاع التشييد السوري تسمح بالرهان على عودة استثمار المغتربين في هذا القطاع، في وقتٍ قريب.
تعليقات: