الإضراب لا القرارات القضائية هو الذي وجّه رسالة شديدة السلبيّة للخارج (عباس سلمان)
عادت المصارف اليوم إلى فتح فروعها، بعد "تعليق الإضراب مؤقّتًا ولمدّة أسبوع"، بناءً "لتمنّي رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي"، وبانتظار دعوة "الجمعيّة العامّة لاتخاذ الموقف المناسب".
عبر هذه الجمل المأخوذة حرفيًّا من بيان تعليق الإضراب، حاولت الجمعيّة الإيحاء بأن هذا القرار جاء نتيجة إلتماس ناعم لا أكثر، من صديقها الذي يترأّس اليوم السلطة التنفيذيّة. كما حاولت الجمعيّة الإيحاء بأنّها مازالت تمسك بورقة العودة للإضراب بحزم، في حال لم تصدق تطمينات رئيس حكومة صريف الأعمال.
إلا أنّ العارفين بما يجري داخل دهاليز الجمعيّة اليوم، يشيرون إلى أنّ هناك ما هو أبعد من ذلك. ففك الإضراب لم يأتِ بفعل تمنّي ميقاتي، والعودة إلى التصعيد لم يعد ورقة تملكها جمعيّة المصارف من دون قيود.
فك الإضراب: مصارف لا تريد التصعيد
تشير مصادر مصرفيّة إلى أنّ الضغط الأساسي الذي دفع باتجاه إعادة فتح الفروع المصرفيّة اليوم لم يكن "تمنيات" رئيس حكومة تصريف الأعمال، ولا المخرج الركيك الذي مثّله بيان ميقاتي وقرار مولوي. إشكاليّة الجمعيّة الأولى كانت الضغط الداخلي، من جانب مجموعة كبيرة من المصارف التي بدأت خلال الأسبوع الماضي بالضغط باتجاه فك الإضراب بالسرعة القصوى.
وأكثر من ذلك، تشير المصادر نفسها إلى أنّ هذه المصارف بالتحديد بدأت –قبل اتخاذ قرار فك الإضراب- بالتلويح بفتح أبوابها من دون قرار رسمي من الجمعيّة. بل وذهبت بعض المصارف إلى حد تمرير الكثير من الخدمات المصرفيّة داخل الفروع عبر مواعيد مسبقة، وخصوصًا لأصحاب حسابات الدولار الطازج والمستوردين الذين يحتاجون لإجراء تحويلات إلى الخارج. ومع مرور كل يوم خلال فترة الإضراب، كانت نسبة المصارف التي ترسل هذا النوع من الإشارات المتمرّدة تكبر، فيما كان عدد العمليّات التي تجريها يتوسّع ويزداد، وهو ما أثار خشية الجمعيّة من انفراط عقد الإضراب من دون قرار أو بيان رسمي منها.
لم تثق إدارة الجمعيّة بمفعول بيان ميقاتي الأخير، ولا بقرار مولوي الذي نصّ على لجم الضابطة العدليّة ومنعها من تلبية إشارات النائبة العامّة الاستئنافيّة غادة عون. فجميع هذه القرارات، لن تمنع القاضية عون من اتخاذ قرار الادعاء على أي من المصارف التي تمنّعت عن تسليم الداتا لها، تمامًا كما ادعت على مصرفي عودة وسوسيتيه جنرال بتهمة تبييض الأموال. مع الإشارة إلى أنّ نص تعديلات قانون سريّة المصارف يفرض الادعاء على المصارف بهذه التهمة، بمجرّد تخلّفها عن كشف السريّة المصرفيّة للقضاء اللبناني (راجع المدن).
ومع ذلك، اضطرّت الجمعيّة لتلقّف بيان ميقاتي وقرار مولوي كمخرج مشرّف للخروج من الإضراب بماء الوجه، ومن دون "بهدلة" الظهور بمشهد القطاع المنقسم أمام الرأي العام، خصوصًا أن أولى تباشير هذا الانقسام ظهرت من خلال تعاون مجموعة من المصارف مع طلبات كشف السريّة المصرفيّة التي أرسلتها القاضية عون.
ولهذا السبب، تشير المصادر إلى أنّ بعض أصحاب الرؤوس الحامية والمتطرّفين داخل الجمعيّة يعتبرون أنّهم أهدروا فرصة مثاليّة للتصعيد، بعدما تمكنوا من شحن أدواتهم الإعلاميّة على مدى أيّام الأسبوعين الماضيين، وصولًا إلى تهديد اللبنانيين بالعزلة الماليّة في حال قطع علاقة لبنان بالمصارف المراسلة، نتيجة دعاوى تبييض الأموال المقامة بحق المصارف. وهذا تحديدًا ما يدفع هذه الفئة من المصرفيين المتطرّفين إلى التصويب على مجموعة المصارف التي ضغطت باتجاه فك الإضراب، واتهامها "بالغدر والرضوخ لضغوط جهات دوليّة".
أمّا أهم ما في الموضوع اليوم، فهو أنّ المصارف المهادنة، والتي لا ترغب بالتصعيد، أكّدت أنّها قد لا تلتزم بأي قرار للعودة للإضراب العام، وهو ما يهدد الجمعيّة بفقدان القدرة على فرض التصعيد من جديد خلال الأيام المقبلة. وهذا تحديدًا ما يفتح باب سيناريو التصعيد من جانب مجموعة محددة فقط من المصارف داخل الجمعيّة.
المصارف المهادنة: الإقفال خطر على مصالحنا
يعتبر المصرفيون المعارضين للقرارات التصعيديّة أن خطوة الإضراب وجّهت رسالة شديدة السلبيّة للخارج، بما فيه الدول التي تعمل فيها فروع هذه المصارف، وهو ما قد يؤثّر مستقبلًا على علاقة المصارف اللبنانيّة مع المصارف المركزيّة والإدارات الماليّة العامّة في الدول الغربيّة. وهذا بالضبط ما سيحيل لبنان إلى سيناريوهات العزلة الماليّة، لا خطوة الادعاء بتهم تبييض الأموال.
وتشير مصادر هذه المصارف إلى أنّ ما تم تسويقه في الإعلام، لجهة مخاطر الادعاء الذي قدّمته القاضية غادة عون، ينطوي على الكثير المبالغات. فمن أصل 46 مصرفًا تجاريًّا في السوق، و15 مصرفًا استثماريًّا، يمتلك أكثر من 42 مصرفًا علاقات متينة ومستقرّة مع المصارف المراسلة، إما بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر عبر مصارف وسيطة. والإبقاء على هذه الحسابات المراسلة، رغم تضاؤل عددها مؤخرًا، يعود أساسًا إلى قرار سياسي موجود لدى العواصم الأجنبيّة، وخصوصًا وزارة الخزنة الأميركيّة، وهو ما ينفي احتماليّة دخول البلاد في نفق العزلة الماليّة بسبب ادعاء على مصرفين من أصل 61 مصرفًا عاملًا في السوق!
أمّا الأهم، فهو أن القرار السياسي في هذه العواصم الأجنبيّة، ونظرة هذه الدول للقطاع المصرفي اللبناني، ودوره في سياق المعالجات الماليّة، سيتضرّر كثيرًا بمجرّد إبداء هذا التمرّد على قرار قضائي يستند إلى تعديلات السريّة المصرفيّة، التي تمثّل شرط صندوق النقد الوحيد التي تم تحقيقه (ولو بشكل مشوّه وملغوم). باختصار، ترى هذه المصارف أنّ التوتير الذي تمارسه جمعيّة المصارف لم يعد مبرّرًا، بل وبات يضر بمصالح المصارف غير المتأثّرة بدعاوى القاضية غادة عون. وإذا كان هناك من يعاني من حشرة هذه الدعاوى القضائيّة، فلا يوجد ما يبرّر تحميل القطاع بأسره وزر هذا التصعيد الذي بات يشبه يشبه الخوض في البحر الهائج في خطورته.
في النتيجة، ستكون جمعيّة المصارف أمام امتحان صعب هذا الأسبوع، بوجود فريق يدفع باتجاه إعادة تفجير الأمور، وفريق يسعى إلى لململة المسألة وطوي صفحة الإضراب والتصعيد. وهذه التجربة، قد تفضي للمرّة الأولى إلى تصعيد لا تشترك في تنفيذه جميع المصارف العاملة في لبنان. وهو ما قد يفضي إلى ترجمة الشرخ داخل الجمعيّة للمرّة الأولى في تحركاتها الاحتجاجيّة.
تعليقات: