آثار الاعتداءات الاسرائيلية في حوارة في نابلس
لعلّ القاسم المشترك في تناول الصحافة العبرية، مِن يمينها إلى يسارها، لهجمات المستوطنين الواسعة بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم في حوارة وبلدات أخرى تابعة لمحافظة نابلس، أنها اتفقت جميعاً على تولي مهمة الدفاع عن جيش الاحتلال الإسرائيلي لتبرئته من التورط المقصود في إطلاق العنان للمستوطنين في شن هجومهم المُخطّط.
معرفة مسبقة باعتداء المستوطنين
"فقدان السيطرة"، هو التعبير الذي تبنّاه الإعلام العبري لتبرير تقاعس جيش الاحتلال عن منع الهجوم أساساً على الفلسطينيين، رغم علمه المسبق بهذا السيناريو، نظراً لإعلان المجموعات الاستيطانية المتطرفة عن هجماتها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي قبل ساعات قليلة من تنفيذها.. وهذا ما أكده مصدر عسكري مسؤول لتلفزيون "مكان" العبري، إذ نطق بنصف معلومة صحيحة، ألا وهي أن الجيش كان يعلم مسبقاً بتنفيذ الاعتداء الذي وصفه "باضطرابات دموية مدبرة"، وأنه لم تكن هناك حاجة إلى استخبارات لمعرفة تطور الأحداث. لكن النصف الثاني من جملته لم يكن صحيحاً، وكان بهدف التضليل، وذلك بقوله: "لكن، خرجت الأمور عن السيطرة".
فكيف تخرج الأمور عن السيطرة وقد اعتاد جيشه الاحتلالي على قمع أكبر التظاهرات والمسيرات الفلسطينية على مدار عقود؟ ألم يكن معه الوقت الكافي لمنع مخطط العدوان بحق سكان حوارة والبلدات الفلسطينية الأخرى؟
وقت طويل لتنفيذ العدوان
الحقيقة أن سبب عدم تحرّك جيش الاحتلال في الوقت المطلوب يكمن في عدم رغبته أساساً بالتحرك إلا في آخر ساعة، ارتباطاً بقرار سياسي وأمني، أي بعد منح المستوطنين الوقت الكافي لتفريغ عدوانهم الحاقد بحق الفلسطينيين، بدليل التجربة الفلسطينية لهكذا سيناريوهات مُكرّرة.
وهذا ما يُسشتف من اعتراف ضمني أدلى به المتخصص بالشأن العسكري الإسرائيلي، إيال عاليما، في إفادته للبرنامج الإخباري الصباحي على الإذاعة العبرية العامة، حينما أشار إلى أنه "في معظم الأحداث لا تمنع القوات الإسرائيلية المستوطنين من تنفيذ هجماتهم ويكون الفلسطينيون الهدف". وتابع عاليما: "ما حدث عبّر عن عجز الجيش الإسرائيلي في إلزام المستوطنين بالتقيد في الأوامر".
وللتغطية على تسهيل الجيش لعنف المستوطنين بهدف إرسال رسائل ترهيب للفلسطينيين من مغبّة مقاومة الاحتلال ومستوطنيه، لم يجرؤ الإعلام العبري على كشف الحقيقة القائلة بأن الاعتداءات على الفلسطينيين جرت تحت حماية ومرأى شرطة الاحتلال، وهذا ما أكده فلسطينيون نجوا من موت محقق في عدد من المناطق.
تبنّي الرواية الأمنية الكاذبة
ويقول الصحافي من فلسطينيي-48 محمد سلامة لـ"المدن"، باعتباره متخصصاً في الشأن الإسرائيلي، إن الإعلام العبري بكل مرجعياته، حتى اليسارية منها، لديه توجه دائم بتبني الرواية الأمنية بما فيها واقعة حوارة، مبيناً أن حكاية "عدم السيطرة" أكذوبة، وكذلك الحال بالنسبة للحجة الأخرى التي حاول جيش الاحتلال التستر بها والمتمثلة في "انشغاله بالبحث عن الفلسطيني منفذ عملية حوارة التي أدت إلى مقتل مستوطنين".
وأشار سلامة إلى أن الجيش الإسرائيلي أراد منح الفرصة للمستوطنين لتفريغ عنفهم إرضاء لأقطاب اليمين المتطرف المتواجدة داخل الحكومة، وهم أنفسهم أباطرة الاستيطان في الضفة المحتلة، مشيراً إلى أن الجيش تدخل فقط حينما شعر المستوى السياسي والأمني أن الأمور خرجت عن السيطرة، على وقع اتصالات أميركية وأوروبية مكثفة مع تل أبيب للجم المستوطنين فوراً، خشية ذهاب الأمور لعواقب أشد خطورة.
توزيع مهام
الحال أن ثمة سبباً آخر يدفع جيش الاحتلال لعدم مواجهة المستوطنين الذين ينفذون اعتداءات يومية بحق الفلسطينيين، ألا وهو أن دولة الاحتلال بكل مركّباتها باتت تنظر إلى المستوطنين في السنوات الأخيرة كـ"جيش الظل" الذي يقوم بكل الأمور غير الشرعية في سبيل توسيع الاستيطان وترحيل الفلسطينيين وترهيبهم.. فهذا الجيش لا يريد لجم مستوطنين تمّت تهيئتهم أيدولوجياً وتنظيمياً على مدار سنوات متراكمة في مدارس دينية في قلب مستوطنات الضفة ليمثل خط "الحماية الوجودية" لدولة الاحتلال.
ناهيك عن أن المستوطنين هم جزء من الجيش إذ يخدمون فيه، وأحد القتلى المستوطنين في عملية حوارة الأخيرة هو جندي في سلاح البحرية، ما يعني أنه من غير المستبعد أن يكون أي من المستوطنين المعتدين جندياً إسرائيلياً وقد خلع زيه العسكري للتو للقيام بمهمته الاجرامية.
ومما كان حاضراً أيضاً ضمن ازدواجية المصطلحات في الإعلام العبري، فقد استخدمت صحيفة "هآرتس" توصيف "عملية إرهابية" حينما تعلق الأمر بالعملية الفلسطينية التي قتلت اثنين من المستوطنين، لكنها استخدمت مصطلحات من قبيل "أعمال شغب"، "عنف"، "فوضى" في سياق الإشارة لاعتداءات المستوطنين.
وذهبت "إسرائيل اليوم" و"يديعوت أحرونوت" وغيرها إلى وضع عناوين "تُؤنسن" المستوطنَين القتيلَين، مع تضليل وإخفاء لأصل الحكاية المتمثلة بالاستيطان كسبب رئيسي في مآلات الميدان وبروز جيل فلسطيني فتيّ غاضب حتى قرر الانتفاض على طريقته.. وهو ما يدلل على أن الإعلام العبري يمثل ذراعاً للمستوطنين ويسوّغ إرهابهم.
مع ذلك، وجدت مُعالجات إعلامية هوامش في توجيه النقد لأباطرة الاستيطان في الحكومة الإسرائيلية باعتبارها تأخذ الأمور إلى منحى خطير ومتفجر، وقد عبّر عن هذا الرأي المحلل الإسرائيلي ميخائيل ميلشين، في إطار وصفه لخطورة الوضع، مشيراً إلى أن تخفيف الحكومة الإسرائيلية لوتيرة الاستيطان وتقليل الاقتحامات للمناطق الفلسطينية يمكن أن يقود إلى خفض مستوى التصعيد.
وقاطع مذيع "مكان"، ميلشين، بالقول: "أيضاً السلطة الفلسطينية ضعيفة، ومحمود عباس (أبو مازن) يبدو وكأنه يشغل منصب رئيس بلدية ولا يسيطر حتى على المناطق القريبة مكانياً من مقر إقامته".
في المحصلة، اعتبرت تحليلات إسرائيلية أن في الحكومة الإسرائيلية الحالية أجندتَين اثنتَين، واحدة تدعو إلى التهدئة وأخرى تريد السيطرة على كامل الضفة الغربية والقضاء على السلطة، وطالب أصحاب هذا الرأي نتنياهو بفرض سياسة واحدة على حكومته.
وتحت عنوان "الحذر واجب"، طالب خبراء في الشأن العسكري، الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بعدم الخطأ مع بدء العد التنازلي لشهر رمضان، مشيرين إلى فشل تام لكافة الأجهزة الإسرائيلية، بما فيها الجيش والشاباك، بخصوص موقعة حوارة.
الواقع أن ما حدث في حوارة، جزء من تراجيديا فلسطينية يومية لم تُروَ تفاصيلها الكاملة، فالمستوطنون يتمادون في اعتدائهم وقتلهم للفلسطينين، عدا عن خنق التمدد السكاني الفلسطيني الأفقي، مروراً بسرقة حقوقه من المياه والزراعة والبناء، إضافة إلى أن التنقل في الشوارع وبين المناطق الفلسطينية بات محفوفاً بالخطر.. فينتهي الأمر بالفلسطيني شهيداً أو جريحاً.
تعليقات: