وداد يونس في “وجوه بلون الرماد”.. صدى حرب في الذاكرات


صدر حديثاً ضمن منشورات “دار بيسان” ببيروت، كتاب بعنوان “وجوه بلون الرماد”. من توقيع الكاتبة المحامية اللبنانية وداد يونس.

تتعدد عناوين أوراق هذا الكتاب، حتى تبدو نصوصه للوهلة الأولى، وكأنها تطرق مواضيع منفصلة ومستقلة بحالها، إلا أن القارئ ما يلبث حتى يتلمس ذاك الخيط الناظم والمتصل لتلك النصوص المكثفة، فيستمتع بمتنها المنسوج “برقة وحنية”، والمطرز بأسلوب رشيق. بتسلسل يمكن وصفه بالدقيق. يجعل من النصوص “المنفصلة” نصا سرديا منسجما، تجتمع تفاصيله وتتكامل حول لوحة تلتبس أضواؤها بين القتامة والتوهج، لوحة مرسومة لوطن جريح، لوحة أنجزتها فنانة حاذقة بريشة تنزف بظلال مكسوة بأوزار ثقيلة من “ المرارات والآلام والقهر والقلق والفقدان والغضب”.

هي إطلالة على مشهد لا ينكشف بكلمات لا ترتوي من حبر لغة مقاومة تستدعي الانتباه والحضور. كتابة تدلي بهويتها الصريحة، البعيدة عن كل تعتيم أو تأنق أو تلاعب بالألفاظ والجمل. لذلك حملت وداد يونس كلماتها كفؤوس حادة لتقطع قلب الأمور، وكطاحونة تطحن الزائف والمضلل، لتفسح المجال لخطاب واضح وشفاف، ينأى عن التسميات والعناوين المشوشة. هكذا لم تتعب وداد يونس نفسها في البحث عن قاموس منعزل عن اليومي، وقد لجأت مرات إلى اللهجة العامية في الحوارات الواردة. بل هي في كتاباتها تذهب بنا صوب كلمات مرسومة براحة البال، الكلمات التي تعبر عن قلق ومعاناة ومرارة، وعن أمل وتفاؤل في آن.

ولكون حياة وداد يونس ارتبطت بعالم الفن وتعيش في ظل فورة من ألوان اللوحات الفنية التي تغطي جدران بيتها الجميل، لم تعمد فقط لتزيين غلاف كتابها بلوحة لزوجها الفنان التشكيلي الراحل زعل سلوم، بل اختارت أن تصبغ لون وجوه كتابها بلون الرماد، ما يذكرنا بوجوه الكاتب إلياس خوري في “الوجوه البيضاء”، وهي أيضا رواية تتناول فظائع الحرب الأهلية اللبنانية. وإن كان المجال الأدبي لا يحتمل تصنيفه إلى أدب أبيض أو أسود أو وردي أو رمادي. إلا أن لون اللغة يعتمد على كمية الصدق الذي يتوقَّدُ ضوؤه في ثنايا الحبر المكتوبة به.

وفي لون الرماد ضباب ودخان، وبياض كاشف شفاف يفضح ما ينضوي عليه من أزرق ولازوردي ومن اشتعال الأحمر، ومن أصداء بقية الألوان، وبذلك يكون الرمادي لونا مسبيا ومأسورا بين صدى صراعات ألوان متعددة. والأهم في اللغة ألا تكون غير واضحة وبلا لون ومن دون موقف. ووداد يونس لما تلجأ إلى الكتابة فهي لا تهرب من ساحة المعركة لتستلم أمام أعيرة النيران أو تحت أسنان الجرافات، لأنها تؤمن بأن الكتابة ساحة معركة مضاعفة، تهدف إلى رؤية ما تبقى من العلاقات بين الحقائق الحالية وديمومة الحركات البشرية، ولمنح الوقائع المهملة والأشياء العابرة جاذبيتها غير المرئية.

“وجوه بلون الرماد” نص يكسر القيود الزمنية للسرد، وينحو صوب ضفاف السوسيولوجيا، باعتباره شهادة تتجاوز التأريخ السطحي الآني للأحداث، نص لا يرمي إلى تصفية حسابات من خيبات أمل وشعور بالخسارة، أو يندرج ضمن محاولات انتقام أدبي من الحرب وما أحاط بها من انزلاقات وعنف عبثي أشعلته براميل بارود الطائفية والصراعات الأيديولوجية المقيتة.

قصارى القول، يحق لنا بصدد “وجوه بلون الرماد” أن نزعم أنها كتابة روائية جديدة أقدمت على إبداعها وداد يونس، كتابة تمتح من تقنيات الكتابة الأدبية الرقمية، خصوصا إذا علمنا أن معظم النصوص سبق نشرها على صفحة الكاتبة بالفيس بوك. كما يجوز لنا تصنيفه ضمن ما يسمى بـ “أدب الحرب “، الذي يتوخى حفظ الذاكرة والذاكرة الجماعية إلى النهاية. أدب الحرب الذي اعتبرته الكاتبة يمنى العيد “شكلاً من أشكال المقاومة”.

إلا أن وداد يونس تعرف إصدارها بتواضع وتقول إنه: “يجوز تسمية هذا الكتاب بكتاب ذكريات لكونه يجمع بين عدَّة نصوص تُجَسِّد العديد من الوجوه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعائلية التي خاضت الكثير من المرارات والآلام والقهر والقلق والفقدان والغضب خلال الامتداد الزمني الذي تتناوله هذه النصوص”.

من أجواء “وجوه بلون الرماد”، نقرأ هذا النص المثبث على ظهر الغلاف:

“… وقفتُ على العتبة لثوانٍ أُحدِّقُ في وجهْيهِما الشاحبيْنِ غير مُصدّقة لوجودهما أمامي.

“حضْري بْسِرعَة مَغْطَس ميّ دافِي مع ملح ٌ لإجْرَين أمّك”، بادرَني أبي بقوله بصوتٍ مُتْعَبٍ واهٍ وأنا أساعدُهُما للوصول إلى أقْرَبِ مقعد.

قبل أن يرويا لي كيفَ تسلَّلا ليلاً من بيتهما في الخيام إلى سهل الوطى، ومنه إلى وادي إبل السقي، دون أن يدركهُما أحَدٌ من عناصِرِ جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وكيف اخْتَبَآ داخِلَ جوف شَجَرَةِ زيتون معمرَةٍ في ذلك الوادي، لثلاثة أيام كاملة، زادُهما رغيفٌ وقنينةُ ماء، وكيف حبسا فيه أنفاسَهُما خوفَ انكشافِ أمرِهما، دون تفكير بلسعة عقرب أو أفعى، أو هجومٍ مُباغت من أحد الخنازير البريَّةِ المنتشرة هناك.

أو كيفَ أُدْمِيَت وتَوَرَّمت أقدامُهُما بتَعَثُّرِ خطاهما، على مسالكِ الهضبات والأودية الوعِرَةِ قبل بلوغهما مفرقَ حاصبيا، حيث نقلتهما إلى ساحة شتورة شاحنةٌ عابرة.

وقبل أن يشْربا الشَّاي الذي يُحبَّانه، أو يفتُرَ الماءُ المالحُ الدَّافءُ الذي يغمُرُ قدمي أمي، كانا غطَّا سريعا في نومٍ عميقٍ!”.

* عبد الرحيم التوراني (كاتب وإعلامي، من مواليد مدينة الدار البيضاء في المغرب)

- المصدر: assoual.com

تعليقات: