بدأت القصة بسرقة بنك .. فهل تنتهي بسرقة بلد؟

حكاية الفصل الساخن .. في مخيم البارد!

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً من ليل السبت ـ الأحد في العشرين من أيار، عندما هبّ أهالي مخيم نهر البارد من نومهم مذعورين، بعدما أقضت مضاجعهم أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص في مختلف أرجاء المخيم.

لم يكن أهالي المخيم الواقع الى أقصى شمال لبنان، في غفلة عن احتمال الانفجار الكبير في أحيائهم الوادعة. فمنذ بدأت حكايتهم مع جماعة «فتح الإسلام» في الخريف الماضي، شعر أهالي المخيم ان شيئاً ما قد تغير في بيئتهم، وهم يراقبون هذه الجماعة تتنامى بين ظهرانيهم يوماً بعد يوم. إلا أنهم ناموا في تلك الليلة من دون أن تكون لديهم مؤشرات تدلل على اقتراب الانفجار الكبير، الذي أطاح بهدوئهم وحملهم على التشرد من جديد، في شتات لا يعلم أحد حتى الآن حدوده ومحط رحاله.

قبل الخريف الماضي كان سكان مخيم البارد ينعمون بحياة هانئة، في محيط اندمجوا فيه اجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً. تحول مخيمهم إلى سوق للمنطقة، نشطت فيه التجارة على أنواعها، ونسجوا من خلال ذلك علاقات حميمة مع الجوار، حتى لكأن البارد تحول إلى قطعة من شمال لبنان لا تنفصم عراها ولا ينفك وثاقها.

لا يعرف أهالي البارد حتى الآن، كيف ولماذا ومن أين هبطت عليهم «فتح الإسلام» في تشرين الثاني الماضي، وقامت بانقلاب على حركتها الأم «فتح الانتفاضة» واستولت على مراكزها، وأطلقت شعارات عنوانها «الاصلاح».

في الاجتماع الأول الذي عقده ممثلو الفصائل الفلسطينية في المخيم مع قائد هذه الحركة شاكر العبسي، يزعم معظم هؤلاء أنهم لم يفهموا من هي هذه الجماعة وماذا تريد. سمعوا من «أبي حسين» كلاماً لم يتمكنوا من فك رموزه. وعلى الرغم من الاجتماعات المتتالية التي عقدت لاحقاً، ظلت الفصائل الفلسطينية وممثلوها في غيبة عن فهم هذه الجماعة، وإن كانت الريبة والشكوك هي التي طبعت العلاقة معها طوال الاشهر التي تلت.

يروي مسؤولون في هذه الفصائل وبعض أهالي المخيم الحكاية من البداية: «كانوا نحو خمسين عنصراً على رأسهم العبسي. استولوا على مواقع «فتح الانتفاضة». مكتبها الرئيسي وسط المخيم، ومؤسسة «صامد» و«الخان». انضم إليهم في ما بعد نحو خمسين آخرين قيل إنهم جاؤوا بكامل عدتهم من مخيم برج البراجنة الذي امتنع أهله وفصائله عن استقبالهم أو تأمين مستقر لهم في المخيم الواقع على أطراف الضاحية الجنوبية. ويقال ان حركة «حماس» كانت أول من وعى خطورة هؤلاء الرجال المتعددي الجنسية في مخيم البرج، على كتف الطائفة الشيعية وحزبيها الرئيسيين: حركة «أمل» و«حزب الله». وعليه استنفرت فاعليات مخيم البرج، وتقرر إخراج هؤلاء من المخيم، وكان الخيار على مخيم البارد البعيد جداً عن احتمال الاحتكاك المباشر مع أي طرف، وسط بيئة يمكن أن تستوعبهم أكثر من أي مكان آخر.

قيل الكثير حول عمليات نقلهم المنظم إلى مخيم البارد، واتهمت جهات رسمية وسياسية بتنظيم هذه العملية، فضلاً عن التمويل والرعاية. لكن هذه الاتهامات بقيت بحاجة إلى إسناد أمام نفي المتهمين.

المهم أن الافكار التي جاءت بها هذه الجماعة إلى مخيم البارد، لقيت أرضاً خصبة وسط تنامي الجماعات السلفية في شمال لبنان، من طرابلس إلى المنية والضنية وعكار، وهي المناطق التي تطوق مخيم البارد. صحيح أن هذه الجماعة لم تستطع أن تنسج علاقة طبيعية مع الفصائل الفلسطينية ومعظم أهالي المخيم، لكنها لقيت اهتماماً من الجماعات السلفية داخل المخيم ومع المحيط أيضاً.

وعلى الرغم من مضي أكثر من ستة أشهر على وجودهم في المخيم، فإن معظم الأهالي لا يعرفون عنهم شيئاً. فقد حرصوا على التزام الحذر الشديد في التعاطي مع الجميع، حتى ان تحركاتهم داخل المخيم كانت مشوبة بالتكتم والانغلاق. استأثروا بمنطقة تمتد من مؤسسة «صامد» حتى «الخان» على شاطئ البحر، على مسافة أكثر من خمسمئة متر. لم يكن يخرق حذرهم هذا سوى تجمع المدارس الواقع في هذه المنطقة، حيث كان طلاب المخيم ينظرون إليهم كمخلوقات فضائية غريبة عن مجتمعهم.

من البداية تعامل معهم أهل المخيم بحذر، خصوصاً على مستوى استئجار المنازل للاقامة فيها. فبالنسبة لأهالي المخيم، كانت هناك لهجات غريبة عن بيئتهم، وعليه فإن الحذر واجب. لم يمارسوا ترفاً مالياً داخل المخيم، إلا انه لم تبد عليهم مظاهر الحاجة. وكان من الطبيعي أن يستقطبوا بعض المريدين وسط بيئة فقيرة داخل المخيم.

الانطباع الذي تكوّن لدى الجميع خلال الأشهر الماضية، أن الجماعة ليست حالة معزولة تماماً. أولى الملاحظات أنها محتضنة في محيط المخيم. حركتهم لا تهدأ خلال الليل، دخولاً وخروجاً، من خلال معابر لا يسيطر عليها الجيش اللبناني. دراجاتهم النارية التي يستخدمونها للانتقال إلى منطقة عكار تبدو حركتها واضحة. وبدا جلياً من خلال ذلك أنهم نسجوا علاقة جيدة مع المحيط. ذات يوم توفي أحدهم، فكان المعزون بالمئات من مناطق عكار والمنية والضنية، وبين المعزين من جاء بسيارات سوداء فخمة. وأهالي المخيم يعرفون الكثيرين من هؤلاء، ويعرفون ميولهم السياسية.

يعتقد مسؤول فلسطيني يقضي معظم أيامه في مخيم البارد، أنهم لا ينتمون إلى مدرسة فكرية واحدة. هم قريبون في أفكارهم وطروحاتهم إلى تنظيم القاعدة، لكن ثقافتهم متعددة المدارس، وإن كانت تلتقي عند الافكار السلفية والاصولية. وعلى الرغم من وجود أكثر من «أمير» بينهم، فإن شاكر العبسي يجمعهم من خلال قيادته العسكرية.

دقيقون جداً، وحذرون جداً في النقاش. لا يقطعون بشيء. ينصتون جيداً، ويسجلون ما يسمعون، لأن ثمة مرجعية تجب مشاورتها وإعطاء الجواب الشافي. الشيعة في نظرهم روافض، وهم خارج النقاش. لكنهم يحترمون كل المقاومين لأميركا وإسرائيل على حد قولهم. الانطباع السائد عنهم أنهم حركة أكبر من حجمهم العددي الذي لا يعتقد أحد أنهم يزيدون عن ثلاثمئة. ولكن في النتيجة، لا أحد يعرف حجمهم الحقيقي، داخل المخيم وخارجه. العدد يتراوح بين ثلاثمئة وألف وخمسمئة. الفارق كبير في التقدير، ما يدلل على الجهل الظاهر في تقدير العدد.

الفصل الساخن

صبيحة الانفجار يوم الأحد في العشرين من أيار، كانت الأمور ما تزال ملتبسة على أهل المخيم، وهي استمرت حتى الظهر. فالكهرباء انقطعت، ووسائل الاعلام لم تعد وسيلة مجدية لإطلاع الأهالي على ما يجري حولهم. كثيرون في المخيم، تلقوا اتصالات من الخارج، من أوروبا والخليج وغيرها، زودتهم بتفاصيل ما يجري، بعدما أخذت محطات التلفزة والفضائيات تنقل المعارك مباشرة على الهواء. الجيش اللبناني يقصف المخيم بشدة. ثمة مجزرة ارتكبتها «فتح الإسلام» في صفوفه تحت جنح الظلام. هناك معركة تدور رحاها في أحياء مدينة طرابلس. بدأت الأمور تتوضح شيئاً فشيئاً. ثمة من أعطى الجيش عذراً لاستخدام مدفعيته الثقيلة. فالمؤسسة العسكرية اللبنانية ذُبح جنودها كالنعاج وهم نيام من دون مبرر. في الصباح كان سكان المخيم قد شاهدوا مسلحين، يجولون على دراجاتهم النارية في شوارع المخيم، يحمل بعضهم أسلحة غنموها وسكاكين استخدموها في غارتهم على الجيش. كانوا يهللون ويكبرون ضد «الكفار»، وينادون بالنصر عليهم. بين هؤلاء امرأة ترتدي زياً غريباً.

في اليوم التالي، اتضحت الأمور. القصف مستمر على أحياء المخيم، لا يفرق بين حي وآخر. لم يعد مفهوماً الأمر. بدأت الأسئلة الصعبة أمام سقوط الضحايا والجرحى والدمار. لماذا يقصف الجيش أحياء المخيم بهذه العشوائية إذا كان المقصود «فتح الإسلام»؟

بدأ مزاج المخيم ينقلب. كان على الفصائل الفلسطينية أن تحرك اتصالاتها بضباط الجيش والقوى الفلسطينية. سمع المتصلون كلاماً قاسياً من ضباط الأجهزة الأمنية في الشمال: «أعطيناكم الفرصة لمعالجة هذا الأمر خلال الأشهر الماضية، لكنكم لم تكونوا على مستوى المسؤولية».

ثمة من وجد عذراً لمثل هذا الكلام. إن رفاقهم في الجيش مذبوحون كالنعاج، والفصائل الفلسطينية في المخيم لا حول لها ولا قوة في معالجة هذه الظاهرة التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه. لكن السؤال ظل قائماً ومشفوعاً بنداء حار: «أوقفوا قصف المخيم. هناك ضحايا وجرحى بالعشرات ودمار هائل، وقد يحول ذلك المخيم إلى عدو للجيش، بدل أن يكون خصماً لـ«فتح الإسلام».

في اليوم الثالث بدأت مأساة المخيم تتبدى شيئاً فشيئاً. لا كهرباء، لا ماء، لا أفران تصنع الخبز، بدأ النقص في المواد التموينية، امتلأت المستوصفات بالجرحى، وبعضها تحت مرمى النيران. تحركت الفصائل وفاعليات المخيم لتدارك الوضع، ولكن من دون جدوى.

بدأ الاتصال بقيادة «فتح الإسلام» عبر مشايخ المخيم. طُلب إليهم عدم إطلاق النار على مواقع الجيش من بين أحياء المخيم ومن على أسطح الابنية، حتى لا يضــطر الجيش إلى الرد. هددت الفصائل بإطلاق النــار على كل من يقدم على هذا العمل من داخل المخيم. لكن وسط حالة الفوضى السائدة، كانت فعالية القرارات ضعيفة جداً.

كان سقف الشروط التي وضعتها «فتح الإسلام» عالياً جداً: «لن نوقف إطلاق النار قبل أن يسلمنا الجيش الموقوفين في طرابلس». في اليوم الثالث طرحوا: «نوقف إطلاق النار شرط أن ينسحب الجيش من محيط المخيم». وفي اليوم الرابع تدرّج الموقف إلى: «نعود إلى مواقعنا، ولتعمل الفصائل على إقناع الجيش بوقف النار».

في اليوم الخامس أعلنت الهدنة. العنصر الضاغط كان مصير المدنيين داخل المخيم. بدأوا بالخروج إلى البداوي والمناطق الآمنة. وبدأت المأساة تتفاقم. خمسة وعشرون ألفاً خارج منازلهم. مشهد ألفه الجميع منذ العام .1948

كشفت الهدنة حجم المأساة داخل المخيم. هناك 18 شهيداً من المدنيين، وعشرات الجرحى، وأحياء دمرت بالكامل. طال القصف كل الأماكن. لكن الأهم من ذلك، ماذا عن الغد؟ كيف ستعالج هذه القضية؟

المأزق

واضح أن الجميع في مأزق:

÷ بالنسبة للجيش ليست المسألة معركة عسكرية صافية. لو كانت كذلك لسهل الأمر. بضعة أيام من القصف العنيف، ثم الدخول إلى المخيم. هكذا تفعل الجيوش الكلاسيكية. هناك أكثر من خمسة آلاف مدني ما زالوا داخل المخيم، ثم ان القصف المدفعي سيؤدي إلى تهديم المخيم بالكامل، فضلاً عن التبعات السياسية التي ستترتب على هذا الأمر.

إذا ربح الجيش هذه المعركة بالقوة، فسيكون أمام سؤال تفرضه طبيعة الخلاف السياسي في لبنان. سيكون الجيش في نظر الكثيرين قادراً على فرض السيطرة على كل المخيمات الفلسطينية، فلماذا لا يفعل؟.. المسألة ليست بهذه البساطة. ان حرب مخيمات جديدة، لن تكون نزهة، لا عسكرياً ولا سياسياً.

أما إذا عجز الجيش عن دخول مخيم البارد عسكرياً، فإن سمعته ستكون في الميزان، مع ما يعنيه ذلك من انهيارات على مستوى الدولة والبلد ككل.

وبعيداً عن المعركة، لا يمكن للجيش أن يسلّم بالأمور كما هي الآن. إن أقل ما يمكن أن يقبل به هو تسليم قتلة جنوده للعدالة. ولكن هل هذا الخيار متاح، أمام الافكار التي تحملها جماعة «فتح الإسلام»؟ الواضح حتى الآن، ان كل الوساطات تقف عند أبواب هذه المشكلة، تسليم عناصر «فتح الإسلام» للعدالة.

÷ بالنسبة للفصائل الفلسطينية، لا يقل واقعها حرجاً عن واقع الدولة اللبنانية. هي تلتقي في الغالب على وجوب إنهاء ظاهرة «فتح الإسلام»، لكن الخلاف قائم على الوسائل. ولم يعد خافياً على أحد أن الفصائل الفلسطينية تحاذر الصراع العسكري داخل المخيمات. وعلى الرغم من الاندفاع الذي أبداه أمين سر حركة «فتح» وفصائل منظمة التحرير في لبنان سلطان أبو العينين باتجاه الحسم العسكري، فإن ثمة (من داخل فتح ومنظمة التحرير) من لام أبو العينين على هذه المواقف وطلب إليه تخفيف هذه الاندفاعة.

منذ اللحظة الأولى كان التردد سيد الموقف داخل الفصائل الفلسطينية، وقد لمست السلطات اللبنانية ذلك في اللقاءات المشتركة التي عقدت، وذلك تحت مبرر صيانة المدنيين الفلسطينيين في مخيم البارد، وهو ما دفع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى طرح السؤال: «لماذا تريدونني أن أكون أكثر رحمة على الشعب الفلسطيني من حركتي فتح وحماس»، في إشارة إلى ما يحصل في قطاع غزة.

أكثر من ذلك، ثمة من يهمس اليوم، بأن مسؤولين في فتح ومنظمة التحرير، أبدوا استعداداً للحسم العسكري مع «فتح الإسلام»، ولكن في إطار خطة متكاملة تبلور دور المنظمة في المخيمات وتحدد مسؤولياتها وسلطتها بوضوح كامل، وتعالج أوضاع المخيمات اجتماعياً وإنسانياً. وهذا ما دفع مسؤولين لبنانيين إلى القول «إن لبنان يرفض اتفاق قاهرة جديداً».

في أي حال المشكلة قائمة.. والحل ليس يسيراً، ولا هو في متناول اليد، على الرغم من الافكار التي يجري تداولها في المجالس، والتي تصطدم بإصرار الجيش والدولة اللبنانية على تسليم عناصر «فتح الإسلام» أنفسهم للدولة، وهو ما ترفضه هذه الأخيرة بشدة. وهذا ما يبعد حظوظ الحل السياسي، ويفتح أبواب الحسم العسكري، ولكن بعد إفراغ المخيم نهائياً من المدنيين. إلا أن لهذا الخيار محاذيره وانعكاساته. لم تعد المسألة محصورة بعصابة من المسلحين في مخيم البارد. هناك من يتحدث بالفم الملآن، عن دخول لبنان «دائرة الإرهاب»، من خلال الخلايا النائمة لتنظيم «القاعدة» على أرضه، بعدما بدأ العراق يصدّر «الإرهابيين» إلى الخارج، بحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية مع بداية هذا الأسبوع.

بدأت القصة ظاهرياً بسرقة بنك في الكورة، وتدور أكثر من رواية حول حقيقة هذه القصة. ويتردد في أوساط «فتح الإسلام» ان الهدف لم يكن السرقة، بل الحصول على «حوالة مالية» مقدرة بـ460 مليون ليرة، تأخر المصرف المذكور في دفعها إلى مستحقيها، ما اضطرهم إلى تحصيلها عن طريق القوة. لكن هذه الرواية التي تحتاج إلى إسناد، ليست القصة الكاملة. فما حصل من مداهمات في طرابلس ليل السبت الأحد، وجرى التحضير والحديث عنها قبل يومين في أحد المجالس، ثم الهجوم المنظم على الجيش في محيط البارد وارتكاب مجزرة بهذا الحجم، كل ذلك يفتح أبواب أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات واضحة. وثمة من يؤكد أن التنسيق كان قائماً بين جماعات «فتح الإسلام» في البارد وفي طرابلس، لإسناد كل طرف، الطرف الآخر، في حال تعرض أي موقع للهجوم، وهو ما حصل فور بدء المداهمات في طرابلس. والبقية تأتي.

لقد بدأت القصة بسرقة بنك.. يأمل اللبنانيون ألا تنتهي بسرقة بلد!

تعليقات: